ردود الأفعال الأولى على حكم المحكمة الإدارية العليا بإلزام البابا شنوده بصفته رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية باستخراج تصريح زواج لمن سبق صدور حكم قضائي بالطلاق لهم، تثير ذات القضية التي تؤرق الحاضر المصري، وستحدد ملامح حسمها طبيعة مستقبله، أي مستقبل تلك الأمة التي تتجه بسرعة نحو تعداد المائة مليون نسمة.
إنها قضية العلاقة بين الدين والدولة، والحدود بين اختصاصات وسلطات رجال الدين، وبين سلطات واختصاصات رجال الحكم المدني، وكلا وجهي تلك

رسالة مفتوحة لقداسة البابا شنوده الثالث

موقفكم يا قداسة البابا، والذي يتمسك بفهم معين لنصوص الإنجيل، واعتبار هذا الفهم هو قانون إلهي، لا يخدم صالح أبنائك الأقباط، كما لا يخدم الإيمان بالمسيحية، بل والإيمان بصفة عامة.
فقد وضعتم ما تعتبرونه قوانين إلهية في مواجهة مصالح الإنسان العملية، هذه المصالح التي من الواضح أنها تتضرر كثيراً من جراء التشبث بهذه القوانين.
هذه المواجهة أو التعارض المفتعل بين المشيئة الإلهية ومصالح الإنسان لا يخدم بأي حال قضية الإيمان، إذا كنا معنيين بالإيمان، كما لا يخدم بالطبع الإنسان، إذا كنا معنيين بالإنسان، الذي أحبه الله إلى حد أن سمى نفسه quot;محبةquot;.
هذه المواجهة المفتعلة قد ترهب البعض وتقمعهم، لكنها قد تؤدي ببعض آخر إلى التمرد . . إلى الخروج من المسيحية، أو الخروج من كل دائرة الإيمان، وعندها يمكننا بالطبع أن نلومهم أو حتى نلعنهم، لكننا ينبغي مع هذا أو قبله أن نلوم أنفسنا، لأن فهمنا لمشيئة الله لم يسع محبة الله للبشر.
لذا أناشدك يا قداسة البابا وبرفقتك المجمع المقدس، مراجعة الأمر على ضوء بنوتنا لله وأُبُوَته لنا، لكي تأخذ الكنيسة أولادها تحت جناحيها، ولا تصم آذانها عنهم، فيتبددوا في مهب الريح.
خالص تقديري
كمال غبريال

القضية الواحدة يبرزان فيما أوردته وسائل الإعلام من ردود أفعال بعض رجال الكنيسة ومثقفي الأقباط، والتي تمحورت حول نقطتين: الأولى أن ما تفرضه الكنيسة من قوانين للأحوال الشخصية هي قوانين إلهية، في حين أن ما قضت به المحكمة رؤية إنسانية، وبالتالي فلابد من إعلاء القوانين الإلهية على الرؤى البشرية، والثانية أن الدولة لا يحق لها التدخل في أمور الكنيسة وعقائدها، وفي خلفية هذه النقطة بالتحديد نرصد موقف الكنيسة ككيان ديني في مواجهة سلطة مدنية، وأيضاً في مواجهة دولة ينص دستورها على أن دينها الإسلام، وبالتالي يكون تحصن الكنيسة في مواجهة ليس فقط محاولة فرض الرؤى البشرية عليها، وإنما والأهم مواجهة فرض الشريعة الإسلامية، بمعنى أن تفعيل المادة الثانية من الدستور، والتي تنص على أن دين الدولة الإسلام، يلون توجهات الدولة، لتصبح توجهات إسلامية، وليس توجهات وطنية فيستقبلها جميع أبناء الوطن باعتبارها تهدف لتحقيق مصالحهم جميعاً على قاعدة المساواة والحياد . . هنا تكون الدولة بتوصيفها لنفسها على أساس ديني قد قلصت من صلاحياتها، وحجمت دائرة توصيفها في حدود الدائرة الإسلامية، بدلاً من أن تسعى لتكون مظلة لكل أبنائها، لكنها بهذه المادة حشرت نفسها في دائرة أضيق من الناحية النظرية ابتداء، فما بالنا بالتطبيق العملي؟!
إذا نحينا موقف الدولة ودستورها جانباً، وعدنا إلى موقف الكنيسة في قضية قوانين زواج مواطنين مصريين خاضعين لسيادة دولة محترمة افتراضاً، نجد أن منطق الكنيسة يتطابق تماماً مع منطق جماعة الإخوان المسلمين المحظورة شكلاً، والمتروك لها الحبل على الغارب موضوعاً، فقادة الجانبين يتصورون أن رؤاهم وفهمهم الخاص للدين هو قوانين إلهية، وبالتالي فأي نقد أو نقض لها هو معاداة واعتداء على حق الله، ولا ندري الوصف المناسب لهذا الادعاء، إن كان الطرافة أو الابتذال، أن ينتحل بشر لنفسه ولرؤاه قداسة إلهية!!
الكنيسة إذن تعلن بوضوح وبلا مواربة أنها غير معنية براحة وانتظام حياة رعاياها، وإنما هي معنية بتطبيق ما تتصوره قوانين إلهية عليهم، وهي بالتحديد القوانين التي جاء بها البابا شنوده فور توليه، بعد أن كانت الكنيسة قبله تطبق قوانين أخرى، باعتبارها أيضاً قوانين إلهية، لكننا اكتشفنا أنها ليست كذلك عندما جاءنا البابا شنوده بقوانين أكثر إلهية، وبالتالي علينا أن ننتظر بابا قادم لتتحسن أحوالنا، أو لتزداد سوءاً، فربما أتي إلينا بقوانين ثالثة، تكون إلهية جداً جداً.
أما آلاف العائلات القبطية التي تنفق عمرها في المحاكم طلباً للطلاق والزواج، والمئات الذين يفرون من المسيحية، بما يصاحب ذلك من مشاكل وإشكاليات لعائلاتهم وللدولة، كل هذا لا أهمية له ولا اعتبار يحرك ساكن قداسة أسيادنا ذوي العمائم السوداء الضخمة، والسيارات المرسيدس السوداء أيضاً والفخمة، هؤلاء الذين لا يلقون بالاً للناس إلا عند جباية الأموال، بمسميات رائعة ومقدسة، مثل العشور والبكور والنذور، وعلى الناس أن يدفعوا عن طيب خاطر، وإلا لن يجدوا لهم مكاناً في ملكوت السماوات.
أليس هذا بالتحديد هو منطق الإخوان المسلمين، الذين يحددون للناس رؤى إلهية في كل تفصيلات حياتهم، بداية من دعاء دخول السوق والمرحاض، مروراً بزي الرجال والنساء، حتى حد قتل المرتد، يقدمونها ليس على أنها مجرد فهمهم الخاص للدين، بما يحتمل معه رؤى أخرى قد تحوز قدراً من الصحة، وإنما على أنها قوانين إلهية، لا يجوز لأحد مناقشاتها أو الاعتراض عليها، وإلا كان من أهل النار؟!
الإخوان المسلمون مثل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، يكاد لا يشغلهم نتائج تطبيقات ما يقولون على حياة الناس، فليس من المهم أن يتسببوا في قطع علاقاتنا بالعالم أجمع، وجعلنا في حالة حرب وعداء مستحكم وأبدي مع الكفار في كل أنحاء الأرض، ولا يزعجهم أنهم برؤاهم سيسدلون على مصر خيمة سوداء، تجرم الفن والسياحة والفكر الحر، تجرم الحياة ذاتها وتقدس الموت، وتبث الكراهية بين أبناء الوطن الواحد، بل وبين أبناء الدين الواحد باختلاف طوائفه، كل هذا أمر غير ذي بال، تماماً كما تفعل منظمة حماس الإرهابية في غزة، يموت الشعب فيما هي تنتصر، ولماذا يهتمون ويكترثون، وهم نواب الله على الأرض لتطبيق أحكامه وكفى. . هكذا يقدمون أنفسهم لنا، وبالطبع علينا أن نصدقهم، أولاً لأننا بسطاء ومتدينون بالسليقة، ولأن من يتجرأ على رفع صوته أو رأسه معارضة، سيكون هدفاً لأحجار وخناجر البسطاء الذين حوله، قبل أن يصل لمقصلة الإخوان وأحزمتها الناسفة، أو إلى حرمانات الكنيسة في الدنيا والآخرة!!
لكن ماذا عن دولتنا الكريمة الرشيدة؟!
كيف تقبل أن تكون الكنيسة دولة داخل الدولة، وكيف تسمح لرجالها أن يعلنوا ببساطة أن القضاء لا يحق له التدخل في شئون الكنيسة؟
تعلمت منذ الصغر أنه لكي يحترمك الناس عليك أن تكون محترماً حقيقة، وبغير هذا الشرط الوحيد والبسيط يستحيل عليك أن تحصل على ما تصبو إليه من احترام.
دولتنا التي تقول ويفهم من دستورها أنها دولة مدنية، ينص دستورها أيضاً، كما قوانينها وتطبيقاتها على المرجعية الدينية الإسلامية.
دولتنا التي تقول وينص دستورها على المساواة بين مواطنيها، دون تفرقة على أساس الجنس أو الدين، تعتمد قوانين وتفسيرات دينية تفرق بين الرجل والمرأة، وبين المسلم وغير المسلم.
دولتنا التي تقر وينص دستورها على حرية الفكر والرأي، تزج في سجونها ومعتقلاتها بأصحاب الرأي من كل لون، بناء على فتاوى دينية أو سياسية.
دولتنا الرشيدة فوق كل هذا عاجزة عن توفير أبسط وأدنى متطلبات الحياة الكريمة للملايين من أبنائها، في الوقت الذي ينهب فيه المحظوظون والنصابون المليارات، وتحتكر العائلات رفيعة المكانة اقتصادها رغم أنف الجميع.
دولتنا يعصف بحدودها مليون فلسطيني بتحريض من منظمة إرهابية منشقة على الشرعية، فيرتبك خطابها وتقع في حيص بيص، بين متطلبات أمنها القومي، وتناقضه مع الخطاب الذي تبثه وسائل إعلامها ليل نهار، تشحن به عقول وقلوب الجماهير، ليكتشف الجميع فجأة أننا نندفع في اتجاه مدمر لمصالحنا، التي لا تحتمل المزيد من التدمير.
دولتنا الرشيدة لا تعرف، ولا تريد أو تحاول أن تحدد، إن كانت ستحكمنا بالعلم والعقل، لتحقق لنا واقعاً يحتمل العيش فيه، ومستقبلاً أفضل لأبنائنا، أم أنها ستتركنا فريسة لحملة الأسرار والقوانين الإلهية، يأمروننا فننصاع ونتغاضى، متحملين واقعنا المر، لنضمن بذلك النعيم في الحياة الآخرة!!
دولتنا الرشيدة الرمادية، التي يعجز عتاة المتخصصين عن تحديد لون لها، هل تمتلك من المقومات ما يكفل لها الاحترام الواجب من شعبها، بما فيهم السادة الأفاضل مدعي الرؤى الإلهية؟
[email protected]
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف نسبب ملاحقه قانونيه