على العموم، تشكّل اللّغة
مفتاحًا لفهم مكنونات البشر. وقد ورد في المأثور: quot;من عرف لغة قوم أمنَ شَرّهمquot;. أمّا أنا فأقول: من عرفَ لغةَ قومٍ فهمَ سِرَّهم. ومن هذا المنطلق، يكفي النّظر إلى لغة العرب لفهم الكثير الكثير من حالهم ومآلهم. فليست اللّغة وسيلة اتّصال بين البشر فحسب، إنّما هي تعبير عمّا يدور في أذهان أصحابها من مفاهيم على جميع الأصعدة.
فعلى مرّ التّاريخ البشري،
وعلى الأقلّ منذ نشوء الدّول الحديثة، هنالك تدرُّج في الألقاب والمناصب الّتي يُشغلها القائمون على شؤون الشّعوب، أجاءت هذه الألقاب عبر طريق الانتخاب، أو عبر ثورات وأساليب أخرى من فنون الاحتراب والاغتصاب. ومثلما يعلم الجميع ففي الماضي كان هنالك القياصرة، غير أنّ هذا اللّقب قد اختفى من ذاكرة البشر تقريبًا، حيث لا يزال هذا اللّقب بصفته الرّمزيّة لا غير، في دولة الياپان على سبيل المثال، فهو مجرّد لقب رمزي بينما رئيس الحكومة والوزراء هم الّذين يديرون شؤون البلد، وذلك على غرار الملكيّات الدّستوريّة المعروفة في كثير من البلدان الأوروپيّة. وفي موازاة ذلك من التّاريخ العربي كان هنالك منصب الخليفة، الّذي اختزل السّياسة والدّين في شخصه، وقد اختفى هذا المنصب أيضًا. أمّا اليوم فلدينا إمّا ملك، وإمّا سلطان، وإمّا أمير، وإمّا رئيس، ومن ثمّ تتدرّج المناصب تحت هذه الألقاب. وعلى كلّ حال لا تختلف هذه المناصب عن القياصرة والخلفاء في التاريخ.
لكن، وبالنّظر إلى حال
العربان في هذا الأوان، فقد بدأت تظهر، على ما يبدو، موضة عربيّة جديدة في السّنوات الأخيرة. فمنذ عقد ونيّف من الزّمان تقريبًا - إذ لم أدوّن بدقّة بدء ظهور هذه الحالة - ظهرت على السّاحة اللّبنانيّة على سبيل المثال حالة من الفصام الّذي ينعكس في الاستعمالات اللّغويّة. هذا الفصام يعبّر خير تعبير عن ذلك الفصام الطّائفي المتجذّر في هذا البلد، ذلك الفصام الّذي يحاول الجميع إخفاءه تحت البساط. إنّ إلقاء نظرة على وسائل الإعلام اللّبنانيّة كفيل بكشف هذه الحالة من الفصام الطّائفي السّياسي الّذي ينخر في جسد هذا الكيان.
صحيح أنّ هذا البلد يتخبّط منذ مدّة في محاولات انتخاب خلف موعود للمسمّى لحّود رئيس لبنان السّابق اللّدود، غير أنّ لبنان على ما يبدو مصاب بحالة من التّضخّم الرّئاسي. لقد ذكرت في البداية أنّ اللّغة واستخداماتها تكشف عمّا بطن من ذهنيّات أصحابها، فلنسأل إذن السؤال التّالي: كم رئيسًا للبنان؟
ومن خلال تعقّب وسائل الإعلام العربيّة، واللّبنانيّة على وجه الخصوص، يتّضح أنّ للبنان أكثر من رئيس، فلحّود أو غيره في المنصب هو quot;الرئيسquot; لحّود، والسّنيورة هو quot;الرئيسquot; السّنيورة، ونبيه بري هو quot;الرئيسquot; بري، وإذا استمرّت هذه الحال على ما هي عليه، فقد نبدأ بقراءة المصطلح quot;الرئيسquot; جنبلاط، وهكذا كلّهم رؤساء. أليست هذه الحال مضحكة مبكية في آن؟ كم رئيسًا يستطيع أن يتحمّل بلد صغير مثل لبنان؟ أم أنّ وراء هذه الأكمة اللّغوية ما وراءها من ذهنيّات قبليّة طائفيّة تنخر عظام هذا البلد، مثلما نخرت ولا تزال تنخر في أصلاب هذا الشّرق؟
إذن، وعلى ما يبدو، فإنّ سلّة البصل اللّبنانيّة هذه تحتوي على رؤوس فقط، ولا يوجد فيها أيّ قنّارة.
وماذا بشأن معنى النّصر في المفهوم العربي؟
الإجابة على هذا السؤال بسيطة للغاية. ما دام الزّعيم، القائد الرّمز، الواحد الوارث المورث، ممسكًا بزمام السّلطة فالنّصر دائمًا إلى جانبه. لا يهمّه عدد الأرواح الّتي تذهب هباءً، لا يهمّه البشر، لا يهمّه الشّجر ولا يهمّه الحجر. وما دام متربّعًا على كرسي الزّعامة فهو منتصر، لأنّ انتصاره في نهاية المطاف هي انتصاره على شعبه، ليس إلاّ. هكذا كان على مرّ التّاريخ العربي، وهكذا يكون إلى يوم يبعثون.
وأخيرًا: اقتراح للأخ العقيد،
الّذي يفضّل استخدام لقب الأخ على غيره من الألقاب. وهو الأخ الّذي طالما عوّدنا على مفاجآته الّتي لا يعرف أحد من النّاس من أين تأتي وإلى أين تروح. فها أنذا أقدّم اقتراحي لك، راجيًا أن تقبله كما لو صدر من أخ لأخيه. ما بالك، ونحن نرى ما آلت إليه حال العربان، أن تفاجئنا باستقالتك، وأن تذهب معزّزًا مكرّمًا محالاً إلى المعاش؟ أقول ذلك، لكي يتسنّى لك فيما تبقّى لك من عمر مديد تطوير وتعميق نظريّتك الثّالثة من الكتاب الأخضر. وأقول ذلك، لكي يتسنّى أيضًا للعالم العربي أوّلاً، ومن بعده سائر العالم دراسة فلسفتك وسبر أغوارها وتبنّيها، لأنّها تُشكّل فتحًا فلسفيًّا على غرار ثورة الفاتح. وحذار حذار من طرق باب القصّة والرّواية أو الشّعر، كما فعل صدّام من قبل، فقد أشبَعَنا العربانُ من هذا الكلام حتّى أُصبنا بالتّخمة. ولا أظنّك تجهل ما يجري للمرء بعد الشّبع والتّخمة من تناول الطّعام الفاسد. نحن على أحرّ من الجمر في انتظار المفاجأة.
والعقل وليّ التّوفيق!
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه