تبرز إشكالية الشرعية في عالم اليوم، بطريقة لافتة، في ظل توزعات العالم، وظهور جملة من العلاقات الجديدة المعقدة والمربكة، فبعد أن كان القوام يتشكل بناء على الشرق والغرب، باعتبار التوزعات الأيديولوجية، ولتوزيعات القائمة على التحالفات العسكرية والاستراتيجية، فإن العالم اليوم صار رهنا لتقسيمات الشمال والجنوب، باعتبار تصدر المصالح الاقتصادية والثقافية .إلى الحد الذي يتصارع فيه الأصدقاء والحلفاء أنفسهم.في السابق كانت جماعات حزبية يتم تقييمها بناء على المعطيات الصادرة عن المركز الأيديولوجي، حتى قيل لو أن السماء أمطرت في عاصمة ما ، فإن المنضوين في الركب الحزبي، سرعان ما يحملون المظلات، وهكذا ترسمت توصيفات الرجعي والتقدمي، الذيلي العميل، والوطني الأصيل، في تنافح لم يتورع المتنافسون فيه من استخدام المنابر على اختلاف أشكالها وأنواعها، حتى لم تعد من الفسحة سوى النزر اليسير للتعبير والتفسير والتمييز.
بين التحزب والانقسام، وجد المواطن نفسه في لجة مقلقة ومنهكة من الولاءات والانشقاقات، جلها كان ينصب في إطار المؤثر الخارجي، حتى أن الجيل العربي الذي عاش مخاض الحربين وما بعدهما، كان يركز على مسألة الاستقلالية، عبر التصريح برفض نازية النازيين وبلشفية الروس ورأسمالية الغرب، فيما كانت مصالح القوى الكبرى تتحرك و تتنازع وتتناغم، على حساب الكثرة الكثيرة من الجموع التي لم تجد أمامها من فسحة ، سوى الارتكان إلى المقولات، تلك التي لم يتم الحصول منها إلا على المظهر الصوتي. إنه الغياب للتمييز في لعبة تصارع القوى، إلى الحد الذي لم تجد القوى المحلية سوى خيار الابتلال بالماء، بعد أن تم إلقاؤها فيه مكتوفة!

فخاخ الوطنية
في سؤال الوطنية يبقى التعالق مرتهنا عند لحظة الظهور والنشوء، عن أي وطنية يمكن الحديث، عن الدولة الوطنية ، بوصفها مشروعا تم تصميمه بناء على المصالح التي أقرتها القوى الدولية الكبرى. عن الأرض المحددة بوصفها إقليما باعتبار الوقوف على الملامح المكانية والسمات الثقافية لتلك المجموعة، ومحاولة تمييزها عن الأخرى. ماهو الوطن؟ هل هو الواقع أم الحلم المأمول؟ لقد بقي المواطن العربي، أو الفرد العربي منشدا إلى توزعات السؤال وتشظياته، حول ( بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان)، فيما تعززت توجهات حكومات الانتداب نحو ترسيخ مبدأ العزل من خلال توثيق ملامح القطرية.فيما بقيت التوزعات العرقية والطائفية تفعل الأفاعيل في جسد تلك الكيانات، التي أريد لها أن تكون عالقة في فخاخ المساواة والابتزاز. وهكذا كانت دورة التأزم التي تتبدى تارة في فتنة طائفية في ذلك المكان، وتارة أخرى عرقية ، حتى عاشت الدول القطرية العربية أتون اللحظات التي تهب عليها كرياح الخماسين.عاصفة مدمدمة محملة بالكثير من المفاجاءات والنوايا المتعلقة بمصالح الراعي الأكبر، حتى توطنت فكرة نظرية المؤامرة في العقل العربي، لينشغل بها حد الوله، باعتبار التفسير الجاهز، الذي تحدد عبر مقولات رجل الشارع البسيط أو المسؤول حتى ، فيما بقيت جملة المونولوجست العراقي عزيز علي يتردد صدها لدى العراقيين تحديدا( كلها منه)، وهي التي يتم من خلالها اختصار الواقع برمته، باعتبار أن البلايا التي تحيط بالبلاد والعباد إنما هي من صنع المستعمر.
هل يعترض أحد على توجه المستعمر نحو توثيق مصالحه ورؤاه وتصوراته في رسم العالم؟ وهل يمكن الاعتقاد بسلامة النوايا في عالم يمور بالعلاقات والمصالح المعقدة؟ هل يمكن الحصول على هبة أو منحة من دون قصد؟ لقد جاء مشروع الدولة الوطنية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فما الذي جناه العرب منها؟ ولقد جيء لهم بالحياة البرلمانية والحزبية والمؤسسات والإدارات والهيئات والعليم الحديث والبنى الأساسية ومشاريع الخدمات والصحة والمنافع العامة، فماذا كانت النتائج؟

خرافة المساواة
لقد وجد العرب أنفسهم يعمهون في الثلاثية التي شخصها ماديسون ذات يوم وهو يتحدث عن واقعه الأمريكي، حيث ( خرافة المساواة، فوضى الكثرة، الأهداف الوطنية الكبرى). أما على صعيد التمثل لمفهوم الوطنية، فإن التوقف الأهم الصادر عنهم كان قد تجمد في مضمون؛ العلم والدستور ومجلس الأمة، ليضاف إليها لاحقا النشيد الوطني والصحيفة والإذاعة الرسمية والتلفزيون الوطني، إنه التكثيف لحضور مفردة الوطني، في الوقت الذي يتم التغاضي عن المؤثرات الأشد حفزا في مدى العلاقة القائمة بين الأفراد المكونين لهذا الوطن. وهكذا كان التمثل المجزوء لفكرة الوطن، تلك التي ضاعت في تفاصيلها قيم الحرية والمساواة، حتى صار التطلع إلى أسلوب الرتق والتدبير المجزوء . حتى غدا الفرد يتساءل حول الكيفية التي يتم فيها إعادة صورة الدولة القطرية، التي قيل في نقدها الكثير، فيما هي اليوم يتم تبدبدها وتحت نظر وأسماع المحطات الفضائية!وقبل ذلك قال الشاعر طوقان؛ ( في يدينا بقية أرض، فاسكتوا كي لا تضيع تلك البقية)!!!!!!!!!!!
كيف يمكن العودة إلى أضعف الإيمان بقيم الوطنية، هل يتم عبر الشعارات؟ أم من خلال حملة إعلانات في المحطات الفضائية المدفوعة الثمن، أم عبر الخطب والبرامج الحوارية التي تجتهد فيها التلفزيونات طرا.كيف يمكن لك أن تقنع فردا بولائه للوطن، هل يتم عبر ترضيته بقطة أرض وقرض عقاري، وسيارة حديثة يحصل عليها عبر قرض ميسر. أم أن الوطن قيمة عليا لا يمكن لها أن تكون إلا على شاكلة ( بلادي وإن جارت علي عزيزة) ليضاف إليها ( وأهلي) .
ترى ماهو الوطن؟ وهل حان الوقت لأهمية وضع التعريف الدقيق لمفهوم الوطن والوطنية، بعد أن تحول هذا المفهوم إلى مدار للسخرية والهزء والضحك على الذقون والمزايدة على البشر والتعسف بأحوال الناس واضطهادهم وكبتهم وقمع حريتهم. و ماهي البوابة التي يمكن من خلالها تشخيص المعايير لها ، قانونية ، عرقية، طائفية، سياسية، اقتصادية؟!

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف نسبب ملاحقه قانونيه