من مفكرة سفير عربي في اليابان

ولد الفونسس الكابون بمدينة نيويورك في عام 1899 من عائلة ايطالية فقيرة، وعاش شبابه مكافحا لجمع المال. وعانى صراع بين أحلامه الكبيرة للغنى السريع وتحديات حياته الواقعية، فاختار طريق الجريمة في مجتمع أعتبره غير عادل. فترك المدرسة وتزوج وهو مراهق في الخامسة عشر من العمر. وأشتهر بذكائه في التعامل مع المال وقوة شخصيته القيادية. وقد هرب في عام 1919 لمدينة شيكاغو متجنبا محاكمته بتهمة القتل، ليشتهر كزعيم لعصابات المافيا في تجارة القمار والمخدرات والخمور والجنس. وجمع من المال الكثير وتوسعت شبكته الإجرامية ونمت قوته الطاغية، وباءت بالفشل جميع محاولات الحكومة لاعتقاله حتى سنة 1931، حيث أعتقل بتهمة التهرب من دفع الضرائب. وقد حكم عليه بالسجن ليطلق سراحه بعد ثمان سنوات لإصابته بتخلف عقلي بسبب مرض الزهري، وليتوفى في الثامنة والأربعين من عمره.
ليسمح لي القارئ العزيز أن أعرض شخصية أمريكية أخرى وهو السير بل غيت. فقد بداء حياته كطالب بجامعة هارفارد، وعمل بتطوير برامج تشغيل الكومبيوتر. وترك الجامعة ليتفرغ لتطوير شركة الميكروسوفت وليحولها لشركة عالمية عملاقة. وساهمت برامج شركته في نشر ثقافة استخدام الكومبيوتر، وتوسعت فروعها لتوفر ملايين الأعمال لسكان العالم. وقد أدت إبداعاته التكنولوجية وذكائه الخارق في التعامل مع المال ليصبح أحد أغنى رجال العالم، كما شارك بثرائه المحتاجين من خلال مؤسساته الخيرية. فنلاحظ مثلين متضادين لموهبة جمع المال، أحدهما أستغل ذكائه المالي ليصبح غني بأمواله التي جمعها من السرقة والقتل وتحطيم حياة البشر، بينما استفاد الآخر من ذكائه ليصبح ثريا بعلمه ويطور اختراعات لخدمة البشرية. فأحدهما اغتنى بالمال وضر المجتمع، بينما حول الآخر ثراءه لمسئولية اجتماعية لخدمة البشرية.
وقد ارتفعت مؤخرا الأصوات المستنكرة لظاهرة ارتفاع الأسعار وتكدس الأموال لذي مساهمي الشركات العملاقة، بينما تزداد نسب البطالة والفقر بين معظم الفئات المجتمعية العاملة. والخوف بأن تودي هذه الظروف لتكرار المسيرات والمظاهرات وأعمال العنف، ولازدياد المعارضة المتطرفة والتي قد تنتهي بعضها في السجن، ويختفي البعض الآخر في سراديب الظلام ليعمل في السر وبدون شفافية أو محاسبة، لتكون بداية لشرارة حرب أهلية تدمر المجتمع واقتصاده. وقد عانت المجتمعات الغربية من ماسي الفقر عبر القرون الماضية، وفطنت قياداتها بعد ثورات حمراء وحروب مدمرة بضرورة خلق مجتمعات ديمقراطية توفر للمواطن حقوقه وتلزمه بواجباته. وطورت برلماناتها قوانين المتاجرة والعمل الحر، وتعاملت حكوماتها بصرامة مع التلاعب بالأسعار والمضاربات الجشعة والاحتكارات الغير مسئولة. وشجعت حرية المتاجرة بين الشباب لأيمانها بأن هذه المنافسة ستخلق بيئة للإبداع والاختراعات وثراء المؤسسات الاقتصادية. وسيؤدي هذا الثراء لزيادة ميزانية الدولة من خلال الضرائب، وتوفير الوظائف لعدد كبير من القوى العاملة، والمشاركة في الإعمال الخيرية التي تتعلق بمشاريع حماية البيئة، وتوفير الماء والغداء والتعليم والتدريب للفئات المجتمعية الفقيرة.
وقد لاحظت الأمم المتحدة خطورة انتشار الظاهرة العالمية لزيادة الهوة بين الفقر والغناء، وخاصة بعد أن امتدت ظاهرة التطرف والعنف والإرهاب لدول الغرب. فمثلا تطور الاقتصاد الأمريكي بانتشار ظاهرة سوق العولمة، ولكن ترافقت هذه الظاهرة بتكدس الأموال بيد نسبة قليلة من الشعب الأمريكي، بينما انتقلت كثير من المصانع والشركات للخارج لرخص الأيدي العاملة فيها، لتنشر البطالة في المجتمعات الأمريكية وليزداد التضخم ولتتقلص الطبقة المتوسطة وتزداد ظاهرة الفقر لتشمل تسعة وثلاثين مواطن أميركي. وقد بدأ رجال المال والاقتصاد يناقشون هذه الظاهرة الجديدة بجدية فاعلة، فقد كتب كلوس شواب الرئيس التنفيذي للتجمع الاقتصادي العالمي، في عدد يناير من هذا العام بمجلة الشؤون الخارجية مقالا وبعنوان مواطنة مؤسسات العولمة يقول فيه: quot;يتحدث مؤخرا الكثير من رجال المال عن المسئولية الاجتماعية وأهمية حسن المواطنة المؤسساتية. كما تعتقد قياداتها بأهمية مشاركة مساهمي الشركات في المسئولية الاجتماعية للمجتمعات التي يعملون فيها، والاهتمام بتأثير ما يقومون به من أعمال على المجتمع وأفراده. وقد سميت مفهوم التعامل مع هذه المسئوليات الجديدة المتزايدة بالمسئولية الاجتماعية للشركات. وقد حددت هذه المسئولية بمجموعة من المفاهيم والممارسات التي تتضمن بنية إدارية مؤسساتية جديدة تعتمد على الاهتمام بالوضع الاجتماعي والاقتصادي للعاملين، وتطبيق معاير سلامة بيئة العمل، وتبني الإجراءات المحافظة على سلامة الطبيعة ودعم الأعمال الخيرية.quot;
وقد ناقش هذا المقال مفاهيم جديدة للشركات الخاصة المسئولة اجتماعيا. كما ربط ذلك بتحويل مفاهيم المسئولية الاجتماعية وأفكارها لتكون ذو قيمة تجارية مربحة. وشجع مفهوم مواطنة شركات العولمة، وحدد مسؤولياتها بمساهمة الشركات بجانب الحكومة والمجتمع المدني في مسئولية التنمية المستدامة والتعامل مع تحديات العولمة كمشكلة التغيرات البيئية وتحديات الرعاية الصحية والحفاظ على الطاقة ومعالجة الموارد الطبيعة وبالأخص الموارد المائية. وأكد بأن التعامل مع تحديات العولمة ستكون مفيدة للشركات والمجتمع في الوقت التي بداءت تزداد سلطة العولمة وتنحسر سلطة الحكومات. فلن تستطيع الحكومات في عالم الألفية الثالثة أن تقوم بكل الواجبات المنوط اليها اليوم، بل ستعتمد حتى في مجال الأمن الوطني والدفاع العسكري على صناعات وخدمات الشركات الخاصة، وذلك بسبب تزايد تأثيرات العولمة الناتجة عن التطورات التكنولوجية. فالمواصلات السريعة والاتصالات الصاروخية وسرعة توفر المعلومات أزالت الحدود الجغرافية، لذلك ستحتاج جميع المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية لجهود عالمية مشتركة للتعامل معها. كما ستكون هناك حاجة لقيادة عولمة جديدة تتفحص المعضلات بعيون شاملة لا بنظرة قومية أو إقليمية ضيقة. ومع تناقص مسئوليات الحكومات ستتزايد مسئوليات الشركات التجارية، ليزداد اهتمامها بالرعاية الصحية للعاملين وتوفير التقاعد وتقديم الخدمات التعليمية والاجتماعية لأطفالهم. وستزداد مسؤولية هذه الشركات لتضم المحافظة على استمرارية الحكومات واستقرار دولها سياسيا وأمنيا على المستوى الإقليمي والعالمي. وستترافق زيادة مسئوليات هذه الشركات مع تطور مسئوليات المجتمع المدني ومؤسساته الغير حكومية، لذلك أصبح من الضروري العمل المشترك بين الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني والشركات الخاصة. وستحتاج هذه الشركات لقيادات مؤمنة بهذه التصورات وذو كفاءة عالية وملتزمة بالقوانين المحلية والعالمية ومستعدة للعمل ضمن أنظمة الشفافية والمحاسبة والسلوك الأخلاقي والبيئي.
كما ناقش المقال مشروع الأمم المتحدة حول المسئولية المجتمعية للشركات العالمية. فقد وقعت أكثر من ثلاث آلاف شركة تجارية في مائة وعشرين دولة على الوثيقة التي أقرتها الأمم المتحدة كدليل عمل للشركات للمحافظة على حقوق القوى العاملة ومنع التجاوزات الوظيفية والفساد والوقاية من التلوث البيئي. كما تؤكد هذه الوثيقة على ضرورة تطوير أعمال هذه الشركات لتضم مسئوليات مجتمعية الخيرية، وبأن تحدد معاير نجاحها بتحقيق نجاحات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في المجتمعات التي تعمل فيها. كما أكدت على أهمية تعليم وتدريب المستهلكين بكيفية الاستفادة القصوى من منتجاتها وخدماتها. والمثل الجميل لنجاح هذه الفلسفة الجديدة هو مشروع بنوك الفقراء الذي أسسها البروفيسور محمد يونس والتي وفرت قروض صغيرة للملاين من الفقراء لكي ينشئوا مشاريعهم التجارية الصغيرة وليتخلصوا من عوزهم وفقرهم، بل وليصبحوا مشاركين في عملية الإنتاج. والمثل الآخر هو مشروع شركة الميكروسوفت لتوفير تكنولوجية الكومبيوتر لخمسة مليار مواطن على سطح الكرة الأرضية وذلك لتهيئتهم لبيئة الإبداع الوظيفية من خلال تعليم وتدريب المهارات التكنولوجية . ولنجاح هذه المشاريع الطموحة نحتاج للتعاون المشترك بين الأمم المتحدة والحكومات ومؤسسات المجتمع المدني مع هذه الشركات لتحقق أهدافها في الثراء الاقتصادي والتطور الاجتماعي والمحافظة على البيئة والوقاية من الأمراض والفقر في قريتنا العالمية الصغيرة.
والسؤال لعزيزي القارئ هل ستعمل برلمانات العربية لوضع تشريعات تسهل العمل الحر ضمن بيئة عالمية تنافسية عادلة تمنع الاستغلال والاحتكار التجاري؟ وهل ستعاقب وبصرامة حكوماتنا العربية التلاعب بالأسعار والمضاربات الجشعة؟ وهل سيشجع التعليم العمل الحر بين الشباب وذلك بتطوير ذكاءهم المالي والمساعدة على خلق بيئة عالمية مشجعة للتعاملات التجارية التي تزيد الثراء ذو المسئولية الاجتماعية؟ وهل ستشجع هذه الحكومات الشركات للمشاركة ببرامج الأمم المتحدة المتعلقة بالشركات المسئولة اجتماعيا لتوفر صمام حماية ضد البطالة والفقر والجهل وتلوث البيئة والإرهاب؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان