لا يكفي أن تكون فلسطينيا يائسا على درجة عالية من التهجير المُزمن في دول الاغتراب والشتات، تتكاثر جيلا بعد جيل على بقايا لهجة محليّة وحلم ممزّق عنوانه الباهت quot;حقّ العودة quot; تعمل على ترميمه باستمرارية مزرية وجهد مملّ.
لا يكفي أن تكون فلسطينيا بائسا محكوما بالموت، حكما
تسلّح فلسطيني لمواجهة فلسطينية
مزدوجا بين القبضة الإسرائيلية الشرسة من جهة، والناب الإسرائيلي المسنون بالأطماع الأمريكية واللامُبالاة العربية من جهة أخرى.
لا يكفي أن تكون فلسطينيا مجردا من حقوقك الإنسانية في المخيمات المحرومة كما في لبنان البلد المُطالَب بأكثر مما يستطيع أن يُطالِب اعتبارا من ترسيم الحدود وانتهاءً باختيارٍ حرّ لرئيس غير مُرتهن للإرادة الدولية والعربية على حدّ سواء.
لا يكفي أن تكون فلسطينيا مُلاحقا أبدا بشبهة التوطين، تلك الصفقة الموعودة على مضض، وأنت تكابر لدرء الشبهة ببيان تلو الآخر وتصريح يتلوه التصريح.
لا يكفي أن تكون فلسطينيا منتفضا، ولا يكفي أن تكون فلسطينيا محايدا، ولا يكفي أن تكون فلسطينيا معتدلا كأن تقف مثلا بين بين، لا يكفي أن تُصارع على كافّة الجهات المُبيّتة أعلاه، بل ينبغي أن تضيف إلى صراعاتك المستفحلة هذه وتلك صراع إضافيّ جديد هو صراع quot;الفلسطينيين quot; للفلسطينيين أنفسهم، وهنا يحتّم الواجب عليك أن تتّخذ من فلسطينيّتك أحد الخندقين إمّا quot;الفتحاوي quot;وإمّا quot;الحمساويquot;، كي تتقن فنّ التواطؤ على كيانك بجدارة، و تعلن انحيازك لخيبتك دون تردد، و تكون عِرضةً لقراءة متكررة مملّة وملتبسة وممجوجة في آن.
هكذا الحال وأنا لست أكثر من مجرد متلقٍ عاجز لواقعٍ آثم، لا يملك أيّة معجزة لأن يحرّك من الواقع الفلسطيني المفجوع ساكنا، ولا حتى أن يسكّن في هذا الواقع الفلسطيني وجعا يُذكر، لكنني لم أستطع التنصّل من الحرج الذاتي بسبب الرسائل العديدة التي تلقيتها على بريدي الشخصي في الآونة الأخيرة تحمل في طيات سطورها الصريحة عتبا مبطنا إن لم أقل مباشرا، وهي رسائل لا يمكن
تصفية حساب بأيدي فلسطينية
إلا أن أتوقف عندها مليا لأن كتّابها آثروا الكتابة بأسمائهم الصريحة بدلا من التلطّي بأسماء مستعارة، والعتب البالغ كوني لا أعير انتباها لما يجري في quot;غزّة quot; ولا أكترث للمذابح المؤلمة التي تعاقبت على يد الاحتلال في الهجوم المكثّف على غزّة في الأيام الفائتة، لم أكن على قدرٍ مماثلٍ لعتب العاتبين، ولا بأس أن أوجز ما استطعت إليه سبيلا،
فقد كرسّت عدّة حلقات من برنامجي quot;اختلاف quot; على إذاعة quot;صوت بيروت quot; عنوانها quot;للتضامن مع غزّة quot; كما حاولت

المساهمة في الحملة التي قامت بها quot;جمعية واتا الدولية quot; بصفتي العضوية في الجمعية ولا أخفي أن الحملة المحمومة التي قامت بها
جمعية واتا الدولية والتي استطاعت أن تستقطب مئات المشاركين في الحملة التي بلغ عدد التواقيع فيها ومساهمات الرأي والمواقف
الآلاف قد لفحتني وقتها بدوامة العناوين والروابط البريدية التي كانت تصبّ في بريدي بالعشرات يوميا أقرأها بنهم بالغ مما جعلني أساهم عبر صفحاتها بتلخيص مواكبتي الإذاعية، وكانت حملة واتا حملة ناجحة بكل المقاييس، استحوذت على انتباهنا واهتمامنا جميعا، أوصلت احتجاج الجمعية على التصعيد الإسرائيلي والتجاوزات والاجتياح للأراضي في غزّة إلى معظم quot;نشطاءquot; الحقوق الإنسانية في العالم.

وهكذا انتهت الحملة على صفحات واتا بكامل كثافتها وثقلها وإمضاءاتها وإملاءاتها، والأزمة quot;الغزاويةquot; آخذة في التفعيل لا التفاعل، وحماس انتقلت من طور الحركة الميدانية إلى الواجهة الرسمية، فتضاربت المهام وتضررّت الهمم، ودخلت حماس الحكومة وليس فقط حماس المقاومة، مرحلة الضبابية في بياناتها مرّة وتصاريحها أخرى.

ولستُ وحدي من كانت صدمته الكبرى عندما وقعت المواجهة بين الفتحاويين والحماسويين في الشارع الفلسطيني
ثكلى القتل الاسرائيلي
الذي واكبناه بأنفاس مقطوعة وشهقات متلاحقة وتنهيدات حارقة من أعماق الروح وأبعاد الاستياء، وقتها وعلى مرأى من أنظار العالم عبر الشاشة الصغيرة تابعنا كيف كانت عناصر حماس تقوم بتصفية بعض العملاء من عناصر فتح بدم بارد، ربما كان العملاء يستحقون الموت، لكن حماس التي آثرت العمل بجبهة مزدوجة موجّهة ضد الإسرائيلي من جهة وضد الفلسطيني لمجرد كونه في الطرف الآخر
من جهة أخرى، فهذه صلاحية أفقدتها مصداقيتها الجماهيرية المؤيدة لها سابقا في كل مكان، وهكذا أصبحتُ أؤثر الصمت على الكلام بخصوص الأزمة الفلسطينية، فأي نقد لسياسة حماس هو عرضة للاتهام بالتحوّل والتطبيع والعمالة، وخاصّة عندما كنتُ أطرح سؤالا ملحّا حول الاستياء البالغ الذي يُظهره دُعاة السخط على إسرائيل لدى أي عملية اغتيال؟،

وبالتأكيد وقطعا لا أقصد هنا مُباركة العمليات الإسرائيلية الغادرة، لكن تبقى مرارة الغدر بأداة إسرائيلية، أرحم بكثير من تلكَ الجولات المخجلة والتي لا تُنسى التي شهدتها الفصائل الفلسطينية المتناحرة وربما ستشهدها قادما على أثر التهدئة الإسرائيلية كل مرّة، وفي سياق كل هدنة أصبح لا بدّ من مواجهة فلسطينية فلسطينية أن تحصل، وأن تصيبنا باستنكار جديد تعمل الكثير من الأطراف العربية المُستفيدة من الصراع الناشب على quot;تهويم quot; تساؤلاتنا وتعويم quot;مبرراتها المراوغةquot; في أحسن الأحوال.

هل كان التشويش المشترك مثلا على شاشة الجزيرة من قِبَل quot;أنور رجا quot; المسؤول الإعلامي في الجبهة الشعبية، المُتناحر شفهيا وليس المُتناظر منطقيا مع quot;جمال نزال quot; المسؤول الإعلامي في منظمة
فتح، على مدار ساعة من الوقت والهذر والصخب والضجيج والعجيج والمُقاطعة التي لم تسفر عن لحظة موضوعية واحدة أو فقرة منطقية تُذكر وإن من باب السهو، فقد كانت جلسة مفاتحة وحوار تلفزيوني هزلي أشبه بحوار الطرشان، لتأتي الصرخة فيما بعد عبر الشاشة الصغيرة من أمّ ثكلى أو أبّ ملتاع
quot;وين العرب quot; سؤال يلسع كما اللهب المسعور ضمائرنا المُرهقة، وأنتهزها صرخة مماثلة لأسأل: وهل تمتثل الفصائل الفلسطينية لإرادة العرب كلّ العرب أم أنها تتلقى توجيهاتها ممن تشاء، لتلقي بدورها لعناتها على من تشاء؟...