ليس غريبا ان نري مشاهد العنف والتعذيب والقتل، وان تستكمل الطبيعة ما عجز عنه الانسان من قدرة علي التدمير، وانما الأخطر هو أن نعتاد quot; ذلك quot; ونألفه، بمرور الوقت. وجه الخطورة هنا ان quot; ذلك quot; ايذانا باننا دخلنا مرحلة quot; مابعد التاريخ quot; بالفعل، التي لا تلوح في أفقها أية حوافز أوغرائب أو حتي مخاوف جديدة تبث الرعب في النفوس أوترتعد لها القلوب، إذ مهما عرض علينا من خراب ودمار عبر مصافي وسائل الاعلام المعولم، فلن نجد أنفسنا، من الآن فصاعدا، أمام أشياء ذات بال أو وقائع جديرة بالدهشة والاستغراب، ناهيك عن حالة التبلد الإنساني، والتواطؤ بفعل العزل التكنولوجي.
أول من تنبه الي هذا التحول الخطير كان الفيلسوف الألماني quot; يعقوب طاوبس quot; (1923-1987) الذي رأي quot; ان عصرنا أحدث تغييرا في مفهوم الزمن، بحيث انه لم يعد أبديا كما كان عليه الأمر في مرحلة quot; التاريخ quot;، حيث ان مسارالزمن quot; خطيquot;، له بداية ونهاية، من بدء الخليقة وحتي نهاية العالم، وإنما صار يدل علي الانتظار و يحيل الي فكرة الأجل والانقضاء، نتيجة لشعور الانسانية بتهديد الفناء والموت في كل لحظة.
ان الاعتقاد في يوم القيامة ndash; حسب طاوبس- صار مشذبا من غرائبيته المعروفة في الأديان التوحيدية، ولو استعرنا لغة ماركس لقلنا انه أفرغ من دلالته الدينية افراغا... ان تفجير برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك وانهيارهما أو كارثة تسونامي أو زلازل شرق آسيا، أو العمليات الإرهابية التي تودي بحياة الآلاف يوميا، أصبحت رمزا لهذه الرؤية القيامية.
لقد كان لدي شعوب آسيا واليونان القديم مفهوما دائريا عن الزمن. فكل موجود فى رأيهم يتحرك تجاه موجود عظيم واحد، تجاه المستقبل.أما التراث اليهودي المسيحي الإسلامي فقد احل الزمن المستقيم محل الزمن الدائري حيث يتحرك من الماضي الي المستقبل. غير ان هذا الخط المستقيم لم يكن لا نهائيا لان خلق الكون هو بداية الزمان ولم يكن ثمة زمان فيما قبل، واليوم الآخر هو نهاية الزمان ولن يوجد زمان بعده. ويكفي للتأكد من حلول وشيوع هذه الرؤية القيامية ndash; اذا جاز التعبير - ان تتنقل بالريموت كونترول بين القنوات الفضائية لتري بعينك ماكيت quot; يوم الحشر quot;.
بيد أن هذه الرؤية القيامية، ظهرت علي استحياء، منذ نهاية القرن التاسع عشر، واستخدم quot; فرانكلين ndash; ل ndash; باومر quot;، أشهر مؤرخي quot; علم تاريخ الأفكار quot; في القرن العشرين، في توصيفها التعبير الفرنسي quot; فان دو سييكل quot;، ليعبر به عن الفوضي وخيبة الأمل التي انتشرت في أوروبا وقتئذ، حيث أصبح العالم بلا اتجاه، أو بمعني أدق عالم يحاول الإفلات من اللاتوجيه. وحسب نيتشه في كتابه quot; العلم المرح quot; عام 1882: quot; فإن الأوروبيين قد تقاذفتهم الأمواج والتيارات بعد أن حرقوا معابرهم من ورائهم وألقوا بأنفسهم في قوارب تحت رحمة أليم quot;. وتمثل هذا الشعور باللاتوجيه، في عدم إدراك أين يقع اليقين، وعدم معرفة ما يخبئه المستقبل. فالعقدان الأخيران من القرن التاسع عشر كانا مفعمين بإناس معلقين في الهواء، قلقين، متشائمين، وهو ما سماه جوزيف ساتن بquot; عصر القلق quot;.
ومع انتشار quot; جميع quot; أسلحة الدمار الشامل، في النصف الثاني من القرن العشرين، وتزايد احتمالات امتلاك التنظيمات الإرهابية لها، خاصة في أعقاب 11 سبتمبر 2001، ظهرت سيناريوهات تحذر من أخطار اندلاع ما يعرف ب quot;الحرب بالصدفة ndash; Accidental War quot;. ويمكن استخدام هذا المصطلح بمعنيين. أولا في الحالة التي تندلع فيها الحرب النووية quot; مصادفة quot; بالمعني الحرفي، من خلال عطل فني.
ثانيا، اندلاع الحرب لان طرفا أو عددا من الأطراف في الصراع الدولي يسيئون تقدير الموقف ويبادرون الي العنف الأقصي. ف quot; المصادفة quot; بهذا المعني الثاني يمكن اعتبارها ناجمة عن سوء الادراك وليس عن عطل فني: وسوء الادراك هذا محتمل الحدوث بشكل خاص في أوقات الأزمات ومراحل التحول التاريخية، حيث يكون ضغط الوقت عاملا ظرفيا كثيرا ما يفسر التوتر النفسي الكبير الذي ينتاب القادة السياسيين وكبار مستشاريهم.
و يري المؤرخون وعلماء السياسة أن الأزمة الفكرية التي سيطرت علي عالم نهاية القرن التاسع عشر، وعرفت بquot; فان دو سييكل quot;، والتي سبقت الحرب العالمية الأولي عام 1914 ومهدت لها، تمثل نموذجا أوليا بسيطا، لخصائص الحرب التي تندلع بالصدفة بالمعنيين المستخدمين هنا، وهو نموذج قابل للتحقيق في أية لحظة اليوم، أكثر من أي وقت مضي.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]