في محاولة الوقوف على تحديد المعنى لمفهوم التاريخ، تبرز جملة من المواقف والرؤى والتصورات حول طريقة التعاطي مع المضمون؛ توظيفا واستثمارا وتداعيات وعواقب محتملة. إنه التمييز الأول بين التاريخ بوصفه مرجعا يحمل بين طياته المعنى الصريح، حيث البحث عن التطابق والحرفية والوضوح، بمقابل الازدواج والرمزية والمجازية والإيحاءات والمعاني المضمرة. وبالقدر الذي يتم فيه الوقوف عند التحديد؛ إن كان التاريخ بوصفه وعيا أم حدثا، فإن التوقف عند درس الاستشراق يكون بمثابة البوابة المشرعة نحو انفتاح المزيد من الأسئلة الفاعلة. فاعلة من حيث غزارة وفيض المعنى والتحليلات والحرفية العالية، تلك التي تقود نحو الغور في العمق من الظواهر. إنها ثنائية الذات والآخر وما تبرزه من افتراضات ومقاربات، وهي الصورة العالقة في الأذهان، تلك التي تستحضر (ماركو بولو) الذي سافر من البندقية، لينكب في جملة من العوالق التي ما انفكت تشكل العمد الرئيس في موضوعة الاستشراق حيث؛ (المعلومات، اللغة، التعليم، الدين، الخدمة العامة، التقاليد، المهام السرية).
عن أية وصفة يمكن البحث عنها، وعن أي تفاعلات يمكن التحديد من خلالها؟ وما هو المنطلق الرئيس الذي يشكل عمد الاستشراق؟ في الإثنية أم الرحلة، أم الرسائل أم المهام الخاصة؟ وكيف قيض لهذه المؤسسة أن تكرس حضورها وتأثيرها؟ لقد وجد تودوروف نفسه عالقا وسط زحمة الأسئلة، لاسيما وهو يعيش لحظة الغيرية، بوصفه مهاجرا من شرق أوربا إلى المركزية الفرنسية، فكان توقفه الحاسم عند شرط المنهجية، حيث المقارنة الدقيقة والصارمة في أهمية التمييز بين (الـ نحن ndash; و- الآخرون)، هذا بحساب أن معرفة الذات لا يمكن لها أن تتم من دون الاندراج في محاولة معرفة الآخر.
الوصف- المعرفة
تبقى المعرفة بمثابة البوابة المشرعة نحو فهم الحياة، إنها الأداة والوسيلة الساعية نحو التحليل والتفسير والشرح والوصف، وهكذا كان التطلع نحو الخوض في قراءة التفاصيل المتعلقة بالمجتمعات عبر مدخل الوعي بتفاصيل الانتماء- الهوية ndash; الوعي الذاتي، إلى الحد الذي يتصدر السؤال الباحث حول مسألة المقارنة، بين أن تعيش العالم أم تفهمه؟ وما بين العيش والفهم، تتجلى إرادة الوعي، حيث التفاصيل التي تطرحها مسألة المعرفة، والامتياز الذي يحظى به من يعلم بإزاء من لا يعلم. إنها المعرفة التي تتيح المجال واسعا نحو الوعي بالذات، وبالتالي إدراك ما لديك من إمكانات وقدرات تؤهلك لاستثمار ما هو متاح بين يديك.
لقد سعى الغرب نحو معرفة العالم، انطلاقا من الوعي بفكرة (الغيرية) تلك التي ألحت على العقل الغربي، وعبر جملة من التجليات التي تبدت، عبر النزوع نحو التمركز، حيث فكرة(الإغريق- البرابرة)، سعيا إلى تحولات الذات الحضاري التي تجلت في الحضارة الرومانية، فيما كان للبرابرة الجرمان دورهم في القضاء على التمركز الغربي، ليبدأ عصر الانقطاع الحضاري الذي نال أوربا، والذي جعل منها واقعة في إسار العلاقات الإقطاعية وما أبرزته من انقطاعات وانفصالات، وصولا إلى النهضة الإيطالية، تلك التي استوعبت مجال العلاقة مع الآخر، حيث النهل عن الآخر بحذق وتركيز ومهارة، باعتبار حالة التواصل مع الحضارة العربية الإسلامية التي كانت تعيش عصرها الذهبي.
كان التطلع نحو العالم، بمثابة المفتاح الذي يمهد لفهم الذات، هذا بحساب أن الوعي بالذات لا يمكن له أن يتم من دون الاندراج في المقارنة مع الآخر. وبالقدر الذي يكون المرتكز وقد استقر عند هذه الثنائية التي يتم من خلالها تحديد الاتجاه وترسيم محاور الفعل والعلم والمواقف، فإن المبادرة تبقى بمثابة البوصلة التي توجه مسارات الفعل، باعتبار أن العالم يبقى رهنا بمن يملك القدرة على المبادرة والفعل والتنسيق والأداء، وهكذا كان الغرب الذي قيض له أن يتمثل وسائل السيطرة والقوة، بحيث قيض له أن يتوجه نحو إتمام مشروعه في تحقيق معالم التحكم بالثقافة، حيث الاعتماد على طرح النموذج الأعلى المكتنز الكمال والحضور الأشد تكثيفا، فيما راحت علاقات القوة تسوح وتحضر بظلالها على تشكيل المعنى المرتبط بالحقيقة، إنه سلاح الخطاب الذي راح يتم من خلاله التأسيس للتمييز بين الذات- المركز، والآخر الهامشي. وهي سلطة الخطاب الحاضر في المجمل من الحقول، والقادر على تسيير وتوجيه التمثلات، إلى الحد الذي يكون التطلع نحو تشكيل وعي الآخر عبر تلك القوة، وفي صلب الثقافي تحديدا. وهكذا يكون الاستشراق وقد تطلع نحو صياغة العالم، عبر تمثيلات القوة سعيا إلى تكريس الحضور.
إرادات الهيمنة
هل يمكن الحديث عن استشراق جيد وآخر رديء؟ هذا بحساب أن الارتباط قد تعالق عند منظومة الكتابة عن الشرق، حين يقدم هذا الأخير بوصفه موضوعا، فيما تحضر الوظيفة الأدائية باعتبار تعدد الوسائط والوسائل، باعتبار الصورة التخيلية عن هذا الشرق الذي كتب به المستشرقون، أو الكتابة الجادة العلمية القائمة على الأسس المنهجية والعلمية في تفحص ومتابعة هذا العالم الشرقي. أو المغزى والغاية الاستعمارية حيث الرغبة والغاية المتطلعة نحو تكريس مجال السيطرة وتوسيع مجال التبعية لهذا الآخر الذي يتم وضعه تحت طاولة التشريح والتفكيك.
ولد الاستشراق من رحم دينامية الحداثة الغربية، حيث التفاعلات التي أفرزتها حركة الإصلاح والنزعة الإنسانية التي عمت أوربا، فيما تم تطويق العالم بالفتح، هذا الذي تراوح ما بين تهنيد العالم، حيث الفاتح الأوربي الذي ما تورع عن وصف السكان الأصليين (للعالم الجديد) وكيف يمكن أن يكون جديدا؟! بالهنود مضيفا على الوصف اللون الأحمر، وتكريس مجال المستعمرات، حيث الصياغة القائمة على مبدأ التعمير، حيث الاستعارة في أقصاها، باعتبار الادعاء بالرسالة السامية القائمة على تعمير العالم. وما ينطوي على هذه الفكرة من تضمينات مركزية تقوم على إلغاء للآخر.إن كان من خلال استخدام القوة المفرطة والعنف المنظم، أم عن طريق الاختراق الثقافي. وهكذا كانت مرحلة التوسع الاستعماري التي تفاعلت فيها المكونات البورجوازية والروح الرأسمالية تضامن المؤسسة الدينية وصلا إلى الهيمنة وتقمصاتها المستندة إلى التمييز ورهانات المعنى.
[email protected]