قبل مدّة، وعلى أثر إعلان
كوسوڤا استقلالها، خرجت إحدى الشخصيّات الفلسطينيّة quot;الإعلاميّةquot; أمام الكاميرات الأجنبيّة وحذّرت من أنّ الفلسطينيّين قد يسيرون على هدي كوسوڤا ويعلنون الاستقلال من جانب واحد. والحقيقة أن تصريحاته أضحت مثارًا للسّخريّة، إذ ذكرّه أكثر من واحد أنّ الفلسطينيّين قد أعلنوا الاستقلال أكثر من مرّة، بدءًا من العام 1988 في الجزائر. بل وأكثر من ذلك، فهنالك وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني الّتي صاغها آنذاك، على ما ذُكر في حينه، الشّاعر محمود درويش. وسنعود إلى هذه الوثيقة لاحقًا.

لكن، وقبل ذلك، حريّ بنا
أن نعترف أمام أنفسنا أوّلاً، إذ يبدو أنّ الهويّة الفلسطينيّة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالصّهيونيّة وبإسرائيل. أي أنّ الهويّة الفلسطينيّة متشكّلة في الغالب كردّة فعل مقابل الحركة الصّهيونيّة لا غير. حتّى أنّ منظّمة التّحرير الفلسطينيّة نشأت في سنوات الستّين من القرن المنصرم، ولم تتبلور قبل ذلك حركة باسم فلسطين ضدّ الاحتلال quot;العثمانيquot; على سبيل المثال، أو منظّمة تحرير باسم quot;فلسطينquot; ضدّ الانتداب البريطاني. بل كانت هنالك حركات عربيّة، ليست ذات طابع فلسطيني وطني محض، أو ذات هويّة فلسطينيّة محدّدة المعالم مختلفة عن سائر الجوار العربي في بلاد الشّام.
والحقيقة الّتي يجب أن تقال هي أنّنا جميعًا في هذه البقعة من الأرض لا نختلف كثيرًا عن بعضنا البعض وما يجمعنا أكثر بكثير ممّا يفرقنا، إن كان من حيث الوشائج العائليّة أو غيرها. ففي كلّ مجالات التّراث الحضاري، من الموسيقي إلى الأطعمة وانتهاءً بكلّ ما يتشكّل في طباع البشر كهويّة جامعة بينهم تبدو الفروق ضئيلة. لقد لخّص ذلك في أحد الأيّام الخوالي أحد الأصدقاء، وقد هاجر منذ زمن إلى بلاد العمّ سام، قائلاً إنّ مدى الاختلاف بين النّاس في هذه البقعة المسمّاة بلاد الشّام هو بمقدار الثّوم المضاف إلى الأطعمة في الطبيخ، ليس إلاّ. وأمّا ما عدا ذلك، فمشترك بينهم. ضحكتُ كثيرًا من دقّة هذا الوصف الّذي وضعه صديقي المهاجر.
وعندما أقول إنّ الهويّة الفلسطينيّة هي ردّة فعل، فإنّما ذلك ينسحب على كلّ أمور الحياة. وردّة الفعل تعني في نهاية المطاف عدم المبادرة إلى أيّ شيء. ملايين من البشر لا تخلق من بين صفوفها مبادرين إلى أيّ شيء، إنّما هم مشغولون بردّات فعل على ما يقوم به الآخرون. هذه هي المأساة الفلسطينيّة، وقد تكون مثالاً على مأساة هذا الشّرق بأسره.

وقد يسأل سائل: وما علاقة ذلك
بوثيقة الاستقلال الفلسطيني؟ وللإجابة على السؤال هنالك حاجة للنّظر في نصّ هذه الوثيقة الفلسطينيّة. فمن خلال قراءة هذه الوثيقة لا يجد القارئ مناصًا من القول إنّها، بصياغتها وبمضامينها، منقولة عن وثيقة استقلال إسرائيل، كما لو أنّ كاتبها قد وضع الوثيقة الإسرائيليّة أمام عينيه وصاغ الوثيقة الفلسطينيّة على شاكلتها.
لهذا الغرض دعونا نقتطف بعض الفقرات من هاتين الوثيقتين:
الوثيقة الإسرائيليّة تفتتح الكلام بالقول: quot;في أرض إسرائيل، نشأ الشعب اليهودي، وفيها أكتملت صورته الروحانية والدينية والسياسية، وفيها عاش حياة مستقلة في دولة ذات سيادة، وفيها أنتج ثرواته الثقافية والقومية والانسانيةquot;.
وكيف تفتتح الوثيقة الفلسطينيّة؟ هاكم الفقرة: quot;على أرض الرسالات السماوية إلى البشر، على أرض فلسطين ولد الشعب العربي الفلسطيني، نما وتطور وأبدع وجوده الإنساني عبر علاقة عضوية، لا انفصام فيه ولا انقطاع، بين الشعب والأرض والتاريخquot;.
وعن الاعتراف الدّولي بالحق في وطن، تنصّ الوثيقة الإسرائيليّة على: quot;وقد أعتُرف بهذا الحقّ في وعد بلفور في اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني عام 1917 وتمت المصادقة عليه في صكّ الانتداب الصادر عن عصبة الأممquot;.
فماذا تنصّ الوثيقة الفلسطينيّة؟ لنقرأ: quot;فإن المجتمع الدولي في المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم لعام 1919، وفي معاهدة لوزان لعام 1923 قد اعترف بأن الشّعب العربي الفلسطيني شأنه شأن الشعوب العربية الأخرى، التي انسلخت عن الدولة العثمانية، هو شعب حرّ مستقلquot;.
أمّا عن الارتباط العاطفي بالبلاد، تنصّ الوثيقة الإسرائيليّة: quot;...وعندما أُجْلِيَ الشعب اليهودي عن بلاده بالقوة، حافظ على عهده لها وهو في بلاد مهاجره بأسره، ولم ينقطع عن الصلاة والتعلق بأمل العودة إلى بلاده واستئناف حريته السياسية فيهاquot;.
أمّا الوثيقة الفلسطينيّة فتقول: quot;وفي قلب الوطن وعلى سياجه، في المنافي القريبة والبعيدة، لم يفقد الشعب العربي الفلسطيني إيمانه الراسخ بحقه في العودة، ولا إيمانه الصلب بحقّه في الاستقلالquot;.
هل تريديون المزيد؟ لئن سألتم لأزيدنّكم.هاكم ما يلي. تنصّ الوثيقة الإسرائيليّة على الحقّ الطّبيعي والشّرعيّة الدّوليّة في البلاد، فتقول: quot;وبحكم حقّنا الطبيعي والتاريخي بمقتضى قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة، نعلن عن إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل.quot;
وها هي الوثيقة الفلسطينيّة تحذو حذو الإسرائيليّة، فتنصّ: quot;واستناداً إلى الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين... وانطلاقا من قرارات القمم العربية، ومن قوة الشرعية الدولية التي تجسدها قرارات الأمم المتحدة منذ عام 1947، ممارسة من الشعب العربي الفلسطيني لحقه في تقرير المصير والاستقلال السياسي والسيادة فوق أرضهquot;.
وها هي الوثيقة الإسرائيليّة تفتح الباب لهجرة اليهود إلى إسرائيل، ثمّ تتبعه بكلام معسول عن الحريات، فتنصّ: quot;تفتح دولة إسرائيل أبوابها من أجل الهجرة اليهودية ومن أجل جمع الشتات، تدأب على ترقية البلاد لصالح سكانها جميعا وتكون مستندة إلى دعائم الحرية والعدل والسلام مستهدية بنبوءات أنبياء إسرائيل، تقيم المساواة التامة في الحقوق الاجتماعيّة والسّياسيّة بين جميع رعاياها دون تمييز في الدين والعنصر والجنس وتؤمن حرية الأديان والضمير والتّعبير والتعليم والثقافة، وتحافظ على الأماكن المقدسة لدى كل الدّيانات وتراعي مبادئ ميثاق الأمم المتحدةquot;.
فتسارع الوثيقة الفلسطينيّة إلى تبنّي هذه الأقوال، فتنصّ: quot;إن دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا فيها يطورون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق، تصان فيها معتقداتهم الدينية والسياسية وكرامتهم الإنسانية، في ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم على أساس حرية الرأي ... وعلى العدل الاجتماعي والمساواة وعدم التمييز في الحقوق العامة على أساس العرق أو الدين أو اللون أو بين المرأة والرجل، في ظل دستور يؤمن سيادة القانون والقضاء المستقل وعلى أساس الوفاء الكامل لتراث فلسطين الروحي والحضاري في التسامح والتعايش السمح بين الأديان عبر القرونquot;.

وماذا بعد؟
يبدو أنّ الفلسطينيّين على العموم، كسائر العربان، مغرمون بالشّكليّات فقط. على القارئ العربي أن يفهم حقيقة مهمّة واحدة، وهي أنّ إسرائيل لم تقم في العام 1948.إسرائيل كانت قائمة بالمؤسّسات الصهيونيّة التي كانت تشتغل ليل نهار طوال عقود سابقة على الأسس السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة الّتي تقوم عليها الدّولة. في العام 1948 فقط كان القرار الرسمي بإقامة دولة يهوديّة، هي قائمة أصلاً.
يُحكى عن بن غوريون أنّه قال: فقط عندما يكون هناك لصّ يهوديّ، وعندما تكون هناك زانية يهوديّة، يمكن القول إنّ الدّولة اليهوديّة قد قامت فعلاً.
أمّا في الحالة الفلسطينيّة فيبدو أنّ الزّعامات الفلسطينيّة قد اكتفت بالسّرقات والاختلاسات، وتركت بناء الدّولة.
والعقل ولي التّوفيق!