بيان البيت الأبيض الذي أعرب فيه عن قلقه إزاء حملة الاعتقالات المتواصلة في مصر للأفراد المعارضين للحزب الحاكم ويريدون المشاركة في الانتخابات المحلية القادمة، وطالب بضرورة السماح لأفراد الشعب المصري بممارسة الاختيار بحرية بين مجموعات من المرشحين المتنافسين، وحث الحكومة المصرية على الكف عن أي أفعال تحد من قدرة أفراد الشعب المصري على ممارسة حقوقهم الإنسانية المعترف بها عالمياً، والمشاركة في انتخابات حرة ونزيهة، هذا البيان يشير إلى حالة الديموقراطية في مصر، لكنه لم يتعد حدود مجرد الإشارة إلى الصورة العامة لما يحدث، ولم يشأ -عن قصد فيما نظن- الاقتراب أكثر من الظاهرة ليضع يده على تفاصيلها، أو حتى يلقي عليها أضواء كافية لأن تمهد لنا الطريق للبحث عن حلول حقيقية لتلك الإشكالية المزمنة، وليس مجرد إصدار بيانات نمطية عامة، تنحصر جدواها في مجرد إبراء الذمة وتسجيل موقف مناصر للحرية والديموقراطية، بل ويبدو أن الأمريكان هم أيضاً يأبون أن يتعلموا من أخطائهم، فلم يعتبروا بترحيبهم بانتخابات نزيهة في الأراضي الفلسطينية، اختار فيها الشعب بحرية نوابه، لكي يفاجأ بعد ذلك بمقاطعة العالم له، وعلى رأس المقاطعين من كانوا يدفعون بكل قوة باتجاه الانتخابات الديموقراطية، أمر محير من دولة وشعب يعتنق البرجماتية منهج فكر وعمل، وقد رأوا ورأى كل العالم معهم نتائج التطبيق الأعمى لآليات الديموقراطية، دون أن تكون الأرض والناس مهيأين لهذه الممارسات، التي أنتجها العالم الحر بعد فترات مخاض طويلة، ولم تهبط عليهم فجأة من السماء، أو من واشنطون بصحبة الآنسة كوندي!!
صحيح ما جاء بالبيان من أن الحكومة المصرية تعتقل 'المعارضين' الراغبين في الترشيح للانتخابات، حدث هذا أخيراً في ترشيحات المحليات، وحدث قبله بعدة أشهر في انتخابات مجلس الشورى، لكن تلك الصحة المنسوبة لتوصيف المعرضين للاعتقال صحة جزئية، والصحيح جزئياً هو في ذات الوقت غير صحيح جزئياً أيضاً، فمن اعتقلتهم الحكومة معارضون، لكنها لم تعتقل المعارضين بصورة مطلقة، من هنا يمكن اعتبار بيان البيت الأبيض مضللاً، من حيث يوحي وكأن صفة معارض كافية لتقوم الحكومة المصرية باعتقاله للحيلولة دون ترشحه للانتخابات.

نعرف جميعاً أن هناك فئة واحدة من المعارضين هي التي تسد الحكومة أمامها الأبواب بالاعتقالات وبأجساد جنود الأمن المركزي على مقار الدوائر الانتخابية، وهي فئة المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة قانوناً، والمحرم اشتغالها بالسياسة دستورياً، هؤلاء الذين يتسللون إلى انتخابات المجالس كمستقلين، ومتى نجحوا وحازوا الحصانة أسفروا علانية عن وجوههم، وكونوا لهم لجاناً برلمانية تحمل صراحة اسم الجماعة المحظورة، وتفرغوا لملاحقة الإعلانات والأعمال السينمائية والفنية والفكرية، بهذا يكون كل جهد يبذل لوقف تحايل هؤلاء على القانون والدستور جهد شرعي ودستوري من حيث المبدأ والاستراتيجية، أما من حيث تكتيكات التنفيذ، فلاشك أنها أبعد ما تكون عن القانونية والشرعية، حتى لو استندت إلى قانون الطوارئ سيئ الصيت والتوظيف.
السؤال هنا لماذا تلجأ الحكومة لطرق ملتوية غير شرعية تستعين بها على أداء مهمتها المقدسة في حماية المجتمع والحياة السياسية المصرية من الخطر الذي تشكله تلك الجماعة، والذي ينذر بتحويل مصر إلى أفغانستان الطالبانية أو غزة الحمساوية، وربما إلى لبنان في رعاية حزب الله ذو الانتصارات الإلهية؟!!
الإجابة الجاهزة هي أن الدولة المصرية استمرأت الحكم البوليسي الذي لا تتقن سواه، وهي أعجز من أن تسمح بحياة ديموقراطية حقيقية، تهدد بالإطاحة برموزها، وربما ترسل بعضهم إلى ما خلف القضبان، وهذا أيضاً صحيح جزئياً، بقدر ما هو خطأ جزئي، فلقد تجاهلت الإجابة عنصراً ثالثاً داخل المعادلة، لولا غيابه لما وجدت الحكومة نفسها مجردة إلا من الطرق البوليسية، لتحقق بها هدفاً شرعياً، هو بالأساس في صالح الوطن ككل، وليس فقط تلبية لرغبة الممسكين بمقاليد الحكم.

إذا تغاضينا عن الموقف السلبي للقاعدة الجماهيرية، باعتبار تضخم نسبة الأغلبية الصامتة ظاهرة مصرية أصيلة، وأنه حتى في أعرق الدول ديموقراطية تظل هناك نسبة لا بأس بها يمكن أن نطلق عليها توصيف صامته، تلك المتفرغة لحياتها ولكسب عيشها، تاركة الشئون العامة لمن لديه الوقت والاهتمام بها، فرغم أن الجماهير التي تتبع الإخوان المسلمين في مقولاتهم الدينية، تدرك في ذات الوقت بوضوح رائع مدى خطر تلك الجماعة على حياتها إذا ما تمكنت من الوصول إلى الحكم، وأنهم لابد سيقودون السفينة لتصطدم في أقرب صخور، لكننا لابد أن نتجاوز توجيه اللوم لجماهير مغيبة قسراً لأكثر من نصف، لنركز على الصفوة المفترض فيها قيادة تلك الجماهير، أو على الأقل التقدم لتشير إليها نحو طرق تحقق بالسير فيها حياة أفضل.. الصفوة المصرية بما تضم من إعلاميين ونشطاء مجتمع ورجال أعمال ومفكرين وباحثين ورجال سياسة وأحزاب معارضة، ناهيك عن الحزب الوطني الكرتوني، العاجز عن مد يد العون الجماهيري للحكومة المفترض أنها تمثله، كل هؤلاء يتوزعون على طيف سياسي واسع، ويدرك أغلبهم خطورة فكر الإسلام السياسي على الوطن وعلى العالم كله، أين هؤلاء على ساحة المواجهة الفعلية في الشارع السياسي المصري، مقارنة بعلو صوتهم في المنابر الإعلامية، ولماذا لم تجد الحكومة فيهم سنداً لها في مواجهة هذا الخطر؟
الإجابة أيضاً جاهزة عند ذلك المعسكر الذي يمكن أن نطلق عليه 'المعسكر المدني أو العلماني'، وخلاصتها أن الحكومة هي المسئولة عن فشل هذا التيار في التواجد الفعال في الشارع المصري، وهي وإن كانت لا تواجه عناصره بالاعتقالات والإجراءات البوليسية بذات الدرجة التي تواجه بها تيار الإسلام السياسي بأجنحته المتعددة، إلا أنها أيضاً تبذل أقصى جهدها لوضع الحواجز في طريقه، فهي تصادر حرية تكوين الأحزاب وحرية إصدار الصحف، وتقيد أنشطة الأحزاب القائمة في الشارع، وتمنع وصولها للجامعات، وتحاصرها داخل مقراتها، ثم هي فوق ذلك تزرع الفتن لتدمير الأحزاب القائمة من الداخل.. وعند هذه النقطة بالتحديد نكون قد وصلنا إلى ذروة مأساة الفكر المصري، المتمثلة في استبعاد النقد والمراجعة الذاتية، واللجوء إلى نسبة الفشل إلى شيطان خارجي، يحمل عنا جميع أخطائنا وخطايانا وتواضع أو انعدام قدراتنا، إنها نظرية المؤامرة اللعينة، التي تقف سداً منيعاً أمام أي أمل في التطور، والتي تصل بنا دائماً إلى طرق مسدودة يستهوينا الجلوس أمامها وممارسة النحيب ومصمصة الشفاه!!
لا ننزع عن الإجابة السابقة الصحة بصفة مطلقة أيضاً، فهي لا تخلو من صدق جزئي، كما تحفل بالتعمية والمغالطة، أو فلنقل الكذب الجزئي، فرغم أن ما حوته من اتهامات للحكومة بإعاقة أو محاولة شل حركة المجتمع المدني صحيح، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن هنالك هامشاً من الحرية متاح في جميع مناحي العمل المدني والسياسي، كفيل بتغيير صورة الحياة السياسية وتوازناتها لو تم استغلاله كاملاً، عندها سوف تسقط من يد الحكومة ورقة الإخوان، التي تستخدمها كفزاعة للشعب المصري وللعالم أجمع، ورقة 'إما.. أو'، إما الأوليجاركية الحاكمة والمتحكمة في مصير مصر الآن، أو حكم الإخوان المسلمين وما أراك ما هو!!
نكتفي هنا بطرح بضعة أسئلة تحتاج لمن يجيب عليها:

bull; هل هناك من يتشكك في أن هامش الحرية المتاح بمصر الآن -بغض النظر عن الاختلاف في تقدير حجمه- لا يتم استغلاله من قبل الصفوة كاملاً وبالأسلوب الصحيح المجدي؟
bull; هل يضم 'المعسكر المدني أو العلماني' من الكفاءات الفكرية والسياسية والإدارية ما يمكنه من القيام بما هو متوقع منه؟
bull; هل يتوفر في أفراد ورموز هذا المعسكر قدراً من الإخلاص لقضايا الوطن، والحماس لإنقاذه مما يتهدده، بالقدر اللازم لمواجهة الأخطار المحدقة، أم أن أغلبهم ممن يحبون التحدث في كل شيء، ولا يتحمسون لأي شيء، أو ممن يتقنون نقد الآخر وهم جلوس في غرف مكيفة، ولا يفكرون ولا يقدرون على الفعل أو يتجرءون عليه؟
bull; هل تتبنى الصفوة في كافة دوائر نشاطها قضايا جماهيرية حقيقية، ورؤى مستقبلية واعدة، أم هي أسيرة الرؤى والشعارات المستهلكة، والتي لا تثير لدى الجماهير سوى الامتعاض والإغراق في السلبية؟
bull; هل من اختاروا لأنفسهم تصنيف 'معارضة' تبنوا فعلاً 'معارضة' بناءة موضوعية، أم هم اتخذوا من 'المعارضة' راية يتاجرون بها في سبيل الرواج الجماهيري، ولتسويق جرائد صفراء، تتقن الإثارة والتهليل والتهريج، وتسعى لتسول البطولة في نظر جماهير غاب عنها الرأي الآخر طويلاً، لكن واقعها أحوج ما يكون لرأي آخر جدي وموضوعي، وليس مجرد دغدغة مشاعر الرفض والضيق لديها من كل ما هو قائم؟
bull; هل نجح الصفوة في الكيانات التي أتيح لهم تكوينها أن يكونوا على المستوى المفترض فيهم، من الإخلاص للفكرة وللقضايا الوطنية، أم بقوا أسرى ذواتهم المتضخمة، ومصالحهم الشخصية المحدودة وقصيرة النظر، يتقاتلون على مناصب لا وجود لها إلا في أذهانهم متواضعة القدرات، أو ربما يتنازعون اقتسام دعم حكومي مشكوك في أغراضه الحقيقية؟
bull; هل ما تم ويتم ضخه من أموال لتقوية المجتمع المدني، خاصة الآتي من العالم الغربي، قد أحسنت الصفوة التي تتلقاه توظيفه للغرض المخصص له، أم أنها تعاملت مع يقدم لها على أنه سبوبة لكسب هو بجدارة غير مشروع، لتكون النتيجة ليس مجرد إهدار الأموال، لكن والأهم إهدار فرص إقامة الوطن والمجتمع المدني المصري من انكفائه وتخلفه؟
إذا كنا لا نزمع استمراء صب اللعنات على شيطان أكبر، نصنع له صنما نرجمه كلما واجهنا فشل أو إشكالية، وأردنا أن نراجع أنفسنا لننقذ من وطننا ومن حياتنا ما يمكن إنقاذه، فإن على كل من ينتمي إلى 'المعسكر المدني أو العلماني' أن يحاول الإجابة على الأسئلة السابقة، وعلى عشرات غيرها على ذات النهج، علنا نجد عبر الدرس والنقد طريقاً نحو غد نأمل ألا يكون حالك السواد!!
إلى أن نقوم بهذه المراجعة ونقوِّم على أساسها سلوكنا وأداءنا الوطني، علينا أن نكف عن اتهام الدولة وهي تواجه جماعات الظلام بالأجهزة الأمنية، فتصرفها هذا وإن كان مؤثماً بكل المقاييس، إلا أنه في المقام الأول دليل إدانة لكل من يعد نفسه ضمن 'المعسكر المدني أو العلماني'، دليل تقصير وتخاذل وفشل ذريع.
[email protected]