من مفكرة سفير عربي في اليابان
قدرت إحصائيات وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية بأن ما صرفته السوق اليابانية لشراء الأدوية العلاجية في عام 2004 بما يقارب السبعين مليار دولار، والمشكلة أن هذه التكلفة في تصاعد مستمر وتنزف الكثير من ميزانية الرعاية الصحية. والتحدي الكبير الذي ستواجهه اليابان هو كيف ستغطي الدولة التكلفة المتصاعدة للرعاية الصحية بسب استمرار ازدياد نسبة المسنين لتصل لربع عدد السكان والمحتاجين لعلاجات طويلة الأمد. كما تعاني دول العالم الأخرى من الارتفاع المستمر لتكلفة العلاجات الطبية حيث ساء الوضع في الولايات المتحدة بحيث أن أصبح هناك ستة وأربعين مليون مواطن لم يستطيعوا شراء التأمين الصحي المتزايدة قيمته. والذي يزيد الطين بله هو الإصرار المتكرر لبعض رجال البرلمان، نتيجة ضغوط منتخبيهم بالإضافة لضغوط شركات الأدوية وعملائهم، لشراء أدوية غالية الكلفة لاعتقادهم بأن هذه الأدوية لها مفعول علاجي اقوي. وتعرف هذه الأدوية المكلفة بالأدوية الأصلية، بينما توصف الأدوية الأخرى الأقل تكلفة بالأدوية المقلدة الجنرك.
تعتمد اليوم اكتشاف الأدوية الجديدة على الشركات العالمية الخاصة، والتي تصرف مبالغ طائلة على أبحاثها، ويكلف اكتشاف دواء جديد لحوالي خمسمائة مليون دولار. ولذلك تحتكر الشركات إنتاج أدويتها الجديدة وتحدد أسعاره كما تشاء ولمدة عشرين عام، حسب القوانين العالمية لبراءة الاختراع. وتعتبر الأنظمة الرأسمالية قوانين براءة الاختراع مهمة لمساعدة الشركات لتغطية تكلفة أبحاثها، وتشجيعها لاكتشاف أدوية جديدة. وقد حاولت كثير من الدول العمل مع الشركات الدوائية لتنظيم تجارة الدواء، كما خفضت بعض الدول عدد سنوات براءة الاختراع، كما وفرت لمواطنيها الأدوية التي تصنعها الشركات المنافسة بعد أن تنتهي فترة انتهاء براءة إختراعها. وتحاول الكثير من الشركات أن تحافظ على ارتفاع أسعار أدويتها بعد انتهاء مدة براءة الاختراع، بالادعاء بأن أدويتها أصلية، وبأن أدوية الشركات الأخرى المصنعة مقلدة وضعيفة التأثير العلاجي. ومن الجدير بالذكر بأن الأدوية الجديدة لا تعرف تأثيراتها السلبية إلا بعد سنوات طويلة من استخدامها، لذلك يتجنب بعض الأطباء المحافظين استعمال الأدوية الجديدة قدر الإمكان حتى معرفة أثرها الطويلة الأمد.
وحينما ترخص الدول بتسويق دواء جديد نتأكد بأن الشركة المصنعة شركة ملتزمة بالقوانين العالمية في صناعة الدواء وبالمعاير الدولية لإنتاجه، وبأن تركيبة الدواء وكميته صحيحة، وبأن تأثيراته العلاجية ايجابية. والمشكلة التي يواجهها علماء الطب هو تأثير ما يسمى بالبلاسيبو أي التأثير الوهمي للدواء. وتستعمل كلمة البلاسيبو للتعبير عن الكبسولات التي تقدم للمريض بدون أن تحتوي على المادة العلاجية. فحينما يكتشف دواء جديد يعطى مجموعتين من المتبرعين من المرضى كبسولات للمعرفة تأثيرها. ويختار الباحث مجموعة من المرضى متشابهة في المواصفات من حيث نوعية المرض وشدته وعمره، ويعطى نصف هؤلاء وبشكل عشوائي وعمياني الكبسولات التي تحتوي على الدواء الذي يراد معرفة تأثيراته العلاجية، بينما يعطى النصف الآخر الكبسولات بدون أية مادة علاجية. وتؤكد الأبحاث العلمية بأن المجموعتين من المرضى ستتحسن حالتهم المرضية. فالمجموعة التي أخذت الدواء قد تتحسن حالتها المرضية بدرجة جيدة، بينما تتفاوت نسبة تحسن المجموعة التي أخذت الكبسولات المموهة. والسؤال المحير ما سر هذا التحسن. يعتقد العلماء بأن الحبوب المموهة لها تأثيرا عقليا مرتبط بالتفكير الايجابي وبالإيمان بأن الدواء سيكون مؤثرا. فحينما يكون المريض ايجابيا في التعامل مع مرضه ويثق في العلاج ويعتقد في طبيبه، ويتصرف في علاجه بذكاء جسمي وذهني وعاطفي وروحي قد يخلق المعجزات. فيساعد الذكاء الجسمي المريض على أن يستمر في المحافظة على نوعية الأكل وكميته لتغذية جسمه، وعلى نشاطاته الرياضية ليقاوم المرض بأن تنتج العضلات مواد كيماوية تنشط جهاز المناعة لمقاومة المرض. ويساعد الذكاء العاطفي المريض على السيطرة على عواطفه وانفعالاته ويوجهها نحو التعامل بايجابية مع مرضه، كما يحافظ على سعادته النفسية ويقلل من قلق المرض وضغوطه التي تضعف المناعة وتزيد من السموم المتراكمة في الخلايا والتي تشيخها وتؤدي لتموتها. ويساعد الذكاء الروحي والاجتماعي المريض لأن ينظر لمرضه بشكل شمولي ويقارنه بما حوله من المرضى ويختلط بهم ليستفيد من تجاربهم وليتعامل بكل تفاؤل وايجابية مع هذا المرض. ويساعد الذكاء الذهني المريض على تفهم نوعية مرضه ومسبباته وطرق التعامل مع هذه لأسباب والوقاية منها والالتزام بأخذ الدواء المناسب بعد مراجعة طبيبه.
وتؤكد الأبحاث العلمية بأن التفكير ألايجابيي والمتفائل واستخدام الذكاء الشامل يساعد في إفراز خلايا المخ مواد تنشط الغدد الهرمونية في إفراز مواد كيماوية تنشط خلايا الجسم، وتنبه الطحال والكبد ونقي العظام لإنتاج كمية كبيرة من الكريات الدم البيضاء. كما تقوم بعض هذه الكريات البيضاء بإفراز مواد تثبط تأثير السموم الناتجة عن المرض بينما تقوم بعضها الأخر بالالتصاق بغشاء جدار الميكروبات وإتلافها. كما تقوم االكريات البيضاء الأخرى بالتهام المكروبات والخلايا المريضة والميتة. وقد أثبتت الأبحاث العلمية بأن هذا العلاج المموهة مع التفكير الايجابي يستطيعان في بعض الأحيان على معالجة الكثير من الأمراض كالربو وضغط الدم والذبحة الصدرية وزيادة إفرازات المعدة والقرحة الاثنى عشرية. ومن الغريب بأن بعض المرضى المصابين بآلام شديدة بسبب التهاب مفصل الركبة المزمن يمكن أن تنتهي الآلامهم بأجراء جرح سطحي صغير على الركبة إذا فشلت مختلف العلاجات الدوائية. وقد بينت الدراسات بأن قوة اقتناع المريض المصاب بمرض الرعشة المخية الباركنسونية بشفائه تزيد كمية المواد الكيماوية الدوبامينية المفرزة في المخ فتقل الرعشة. وتخفف الأدوية والعلاجات المموهة الآلام بتنشيط المخ لفرز كمية من المواد الكيماوية المشابه لمادة المورفين والتي تؤدي لتخفيف حدة الآم المرض. وقد نشرت مجلة النيوزويك في الأسبوع الماضي مقالا عن العلاجات الوهمية، ووصفت المجلة قصة لأحد أستاذة جامعة ديوك الأمريكية وهو البروفيسور دان دالي والذي أصيب بحرق 70% من جسمه وقضى ثلاث سنوات في المستشفى لعلاج حروقه، ويقول البروفيسور: quot; الليلة تلو الأخرى يصرخ المرضى من الألم الشديد ويحتاجون للمسكنات المتكررة. وأتذكر بأنني قد سمعت في إحدى الليالي الطبيب يخبر الممرضة بان لا تعطي جاري المريض الإبرة المسكنة لخوفه من أن يصبح مدمنا عليها. وبعد ساعات من أمر الطبيب بداء المريض يصرخ من الآم شديدة. فلاحظت الممرضة تأتي للمريض بإبرة لتغزها في فخده فيزول ألمه وينام. فسئلت الممرضة وبفضول، كيف قمتي بإعطاء المريض الإبرة المسكنة مع أن الطبيب أصر بالا تعطيه أية أدوية. فردت الممرضة بقولها بأن هذه ليست إبرة مسكنة بل إبرة ماء ملحي، أي ابرة علاجية وهمية.quot;
وقد نشر البروفيسور دان ايرلي المتخصص في السلوك الاقتصادي بحثا مع زملائه بمجلة الجمعية الطبية الأمريكية عن علاج الآلام المتكررة بالأدوية الوهمية. ويشرح البروفيسور في هذا البحث عن إعطاء اثنين وثمانين مريضا متبرعا يشكون من الآلام متكررة حبوب على أساس إنها دواء جديد لتخفيف الألم، ولم يكن في الحقيقة هذا الدواء إلا كبسولات مموهة خالية من أية مادة علاجية للألم. وقد اخبر البروفيسور نصف هؤلاء المرضى بان هذه الكبسولات تكلف الواحدة منها دولارين ونصف، بينما اخبر النصف الآخر من المرضى بأنها تكلف عشرة بنسات. وقد خف الألم عند 85% من المرضى الذين أعطوا الحبوب المموهة والتي اعتقدوا بأنها تكلف دولارين ونصف، بينما خف الألم بنسبة 61% بين المرضى الذين تناولوا الحبوب المموه التي اعتقدوا بأنها تكلف عشرة بنسات. وقد علق البروفيسور ايرلي بالقول:quot;قد يستغرب مرضى التهابات المفاصل الذين يشكون من التأثيرات الخطيرة القاتلة لدواء الم المفاصل فيوكس، والذي سحب من الأسواق لخطورة تسببه لجلطة القلب. فقد إصر هؤلاء المرض بان تغير دوائهم للأسبرين لم تتخفف آلامهم. وقد يكون ذلك صحيحا، ولكن سيستغرب هؤلاء المرضى حينما يراجعون الأبحاث التي قمنا بها.quot; والذي يحاول أن يؤكده البروفيسور هو بأن المرضى تعرضوا لجلطات قلبية لأيمانهم بأن الدواء فيوكس هو الدواء الوحيد الممكن أن يخفف ألامهم مع أنها غالية الثمن وتسبب جلطات قلبية ولم يكن تأثيرها أفضل من الكبسولات المموهة الخالية من الدواء التي أعطاها البروفيسور لمرضى أبحاثه.
والسؤال لعزيزي القارئ هل سينتبه نواب برلماناتنا العربية الأفاضل لمعضلة ارتفاع تكلفة العلاجات الدوائية؟ وهل سيسنون تشريعات تهتم بالصحة الوقائية لتقليل الأمراض المجتمعية والسيطرة على ارتفاع تكلفة العلاجات الدوائية؟ وهل سيتدارسون تشريعات تمنع تلاعب الشركات من نشر مفاهيم وهمية دعائية عن الأدوية الجديدة المكلفة جدا؟
سفير مملكة البحرين في اليابان