قبل العراق، كان الإرهابيون- الذين جعلوا من الإرهاب مصدر رزقهم، واعتنقوه دينا ومذهبا، وأسلوب حياة- يسعون إلى القضاء على المستقلين بالفكر والرأي، وترويع الناس وإخضاعهم، للوصول إلى السلطة التي هي هدفهم، متذرعين بحجج كاذبة، ومدعين الدفاع عن الله. كان هؤلاء الإرهابيون يعتمدون على مصدرين اثنين لمعيشتهم، وتمويل منظماتهم، وعملياتهم الإجرامية التي تتعارض كليا مع كافة الشرائع الإلهية السماوية، ومع الأخلاق الكريمة، والقيم الإنسانية النبيلة.
أول هذين المصدرين هو تبرعات (المحسنين) المتأسلمين، الذين لا يرون- حسب اعتقادهم- وسيلة أسرع وأنجع للتقرب إلى الله، وكسب رحمته ورضاه، من القتل وذبح البشر، وتقديمهم قرابين وأضاحي تُحسب لهم- كما يعتقدون- في ميزان أعمالهم. كما سبق وضحى أمير العراق خالد بن عبد الله القسري، صباح عيد الأضحى، وتحت المنبر، بالجعد بن درهم. فبعد أن أمَّ الناس في الصلاة، خطب خطبة العيد، وقال في آخرها: (أيها الناس اذهبوا وضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم) الذي كان مقيدا مربوطا في أصل المنبر. ثم نزل خالد وأخذ السكين، وذبحه أمام الناس، كما تُذبح الشاة. فشكره العلماء وأثنوا عليه، فهذه الأضحية أعظم أجرا وثوابا عند الله من كل الأضاحي الحيوانية! كما شكره وأثنى عليه ابن القيم الجوزية في (الكافية الشافية). ولا أدري إن كان ثمة علماء دين في هذا الزمان يشكرون هؤلاء (المحسنين المتبرعين) الذين يغررون بالفتية والشبان، ويعدونهم بالجنة وأحضان الصبايا الحسان، فيدفعونهم للانتحار والتمنطق بالأحزمة الناسفة لتفجير أنفسهم بين الناس، وفي الأسواق الشعبية، والمدارس والمستشفيات، وفي المساجد، وبين المصلين الذين يتعبدون الله.
وثاني هذين المصدرين اللذين اعتمد عليهما الإرهابيون لتمويل منظماتهم، هو زراعة وتجارة الخشخاش والأفيون والمخدرات، كما حصل أيام القاعدة وطالبان في أفغانستان وغيرها من البلدان. وكما ما زال يحصل إلى الآن. والمفارقة الطريفة أن هؤلاء الإرهابيين المدعين التمسك بأهداب الدين، يحرمون في العلن، الخمر، لأنه يُسكر، ويذهب بالعقل، ويضر بصحة الناس. ويبيحون الاتجار بسموم أخطر من الخمر وأشد فتكا في الناس، وهي المخدرات، بحجة أنها لم تُذكر بنص، أو أنها مرسلة للكفار. متجاهلين أنها تُرسل كمادة خام، ليعود أكثرها أو أسوأ أصنافها وأنواعها مصنعا مغلفا إلى بلاد التيه والضياع والفقراء.
مصدران آخران لتمويل الإرهابيين كانا بأهمية المصدرين السابقين، وربما أكثر. نشئا في العراق، وبعد احتلال العراق، الذي ساهم إلى حد كبير أهل العراق على اختلاف مشاربهم ودرجاتهم، في تحطيمه وتدميره وتمزيقه، ونشر مشاعر البغضاء والعصبيات الدينية والقومية بين أبنائه.
إن ثالث مصادر تمويل الإرهابيين، التي نشأت في العراق، هي عمليات الخطف، والفدية التي تُدفع لفك أسر المخطوفين. والتي استفاد منها كثيرا الإرهابيون المحليون، والإرهابيون quot;الجلبquot; الذين استقدمهم العراقيون، أو سهلوا لهم القدوم، ووفروا لهم الإقامة في بيوتهم، والحماية والمعلومات. وقد درت على الإرهابيين هذه العمليات أموالا طائلة، إذ لم تقتصر عمليات الخطف على الأجانب الذين كانت تدفع دولهم ملايين الدولارات لفك أسرهم. بل طالت أيضا خطف العرب كاللبنانيين والمصريين والكويتيين والسودانيين. لا بل طالت أيضا بعض العراقيين. وقد استثمر العديد من المقاولين (المحسنين) أموالهم وفتاواهم في هذه التجارة، وإن شئت الصناعة التي كانت أرباحها خيالية لأولئك الذي يدعون تقوى الله والتمسك بأهداب الدين.
ورابع مصادر تمويل الإرهابيين الذي أفرزه تدمير العراق، وساهم فيه بعض العراقيين بنشوة ورغبة واقتدار، كان الآثار العراقية، تلك الآثار الرائعة التي لا مثيل لها في العالم، ولا تضاهيها آثار. ويقال إن أكثر من ستين ألف قطعة أثرية نادرة خرجت على أيدي العراقيين والإرهابيين من العراق. فمنذ اللحظة التي سقط فيها نظام صدام، تدفق عشرات الآلاف من العراقيين إلى المتاحف وأماكن تجميع الآثار. وأشبعوها، وما شبعوا منها، الشاطر، نهبا، والجاهل تخريبا وتحطيما. ولعل هؤلاء فعلوا ما فعلوا انتقاما من ألواح جلجامش التي تروي أسطورة الخلق، لمحو آثارها. أو لعلهم ظنوا أنها والعياذ بالله أصنام تدعو إلى الكفر ومعصية رب الخلق ذو الإجلال والإكرام. كما ظن وحطم تماثيلَ بوذا أبناءُ بن لادن وطالبان في أفغانستان.
قلة قليلة من أبناء الشعوب العربية والإسلامية من تقدر أهمية وقيمة الآثار، وتهتم بها، وترغب بمشاهدتها. والأكثرية الساحقة لا تطيق صبرا على رؤيتها، والتجوال فيها. لا بل تكره النظر إليها، وتقول عنها: إنها أحجار. وما لي أنا ولهذه الأحجار؟ وبعض هؤلاء الناس لا تبعد عنهم أهم مواقع الآثار سوى بضعة كيلومترات. فيما المتنورون يأتون إليها من أبعد أصقاع الأرض، متحملين مشاق السفر، والشمس اللاهبة، والنفقات الباهظة، وفوق هذا وذاك مخاطرين بحياتهم في مواجهة الإرهابيين الذين يتربصون لهم باعتبارهم كفار يدنسون أرض الإيمان، كما حدث في مصر والأردن، وكما حدث للسياح الفرنسيين في السعودية.
قبل أيام تحدث على شاشة إحدى الفضائيات أحد العراقيين الذي على ما يبدو من الناشطين المنشغلين أو المشتغلين بالشأن العراقي العام، فقال مستعينا بنظرية المؤامرة: إنه قد نهى إلى علمه أن آلاف القطع الأثرية العراقية النادرة قد صارت في بريطانيا، وإن عددا من الأغنياء البريطانيين المهتمين بالآثار، وخاصة بالآثار العراقية، قالوا: (إن العراقيين لا يستحقون تلك الآثار الرائعة التي في بلادهم). إذن الحق كله واللوم كله في تهريب الآثار العراقية والاتجار بها يقع على أولئك الكفار.
[email protected]