صدر عن إستشارية الا من القومي العراقي كرّأس يحمل عنوان (إستراتيجية الامن القومي العراقي) وصف بأنه نتاج جهود كبيرة دامت أسابيع، وقد شارك في إعداد الوثيقة ـ كما أطلق عليها في نهاية الكرّاسة ــ مسؤولون على مستوى متقدم من بنية الدولة، وقد قدَّم له السيد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بمقدمة لا تتجاوز السطور العشر، مؤكدا على أهمية وضع (استراتيجية) للامن القومي العراقي، ممضيا موافقته لما جاء في الوثيقة.
لقد سبق وأن تناولت بعض بنود الكراسة بالنقد، ولكني آثرت أن أعيد النظر في الكراسة لأقدم نقدا بنيويا يتصل بفكرة الامن القومي ذاته، فإن النقد التفصيلي للمفردات غير النقد الذي يتناول الفكرة من حيث الجوهر.
لقد وسم واضعو الوثيقة ــ وفيهم مسؤولون أمريكيون!! ــ بانها المشروع الاول من نوعه في تاريخ العراق، وستكون دليل عمل لمدة ثلاث سنوات متتالية، أ ي إلى سنة 2010، الامر الذي أثار استغراب بعض النقاد، باعتبار أن أمد الحكومة هذه لا يتعدى سنتين من الآن، كما أن الإشارة المذكورة تستبطن نقدا لحكومة السيد المالكي، لأنها تعني أن هذه الحكومة وقد مضى عليها ما يقارب السنتين لم تعمل وفق خطط مدروسة، في نطاق ستراتيجية أمنية قومية.
قراءة الوثيقة تثير أكثر من ملاحظة في خصوصها، فهي خالية تماما من أي تصور أو تعريف مقارب لمعنى الامن القومي، كما أنها تخلو من منطلقات أوليّة رئيسية، بحيث يشكل كل منطلق بداية لتفريع المهمات والواجبات والآليات، فعندما تتولى (الكرّاسة) الحديث عن خطط أو أساليب الدولة في معالجة المجال الصحي ـ مثلا ـ نفاجأ بكمية من التوصيات والمبادئ والافكار العامة على غير نسق منطقي متسلسل، وتفتقد من البداية التعريف بالصحة كقمية حضارية وإنسانية ودورها في حماية الوطن من ا لكثير من الاخطار، وذلك كمنطلق أساسي لما يأتي فيما بعد من أفكار وتصورات ومواقف. وهذا هو المعمول به في الكثير من محاولات إنشاء نظرية أمن قومي لهذا البلد أو ذاك.
تفتقر الكرّأسة إلى لغة الامن القومي بشكل واضح، خاصة عندما لا تفرّق بين الحقائق التي يجب أنشاؤها من جهة والحقائق القائمة فعلا، كما هو الحال في قول المقررين ضمنا، من أن (إستراتيجية الأمن القومي العراقي) تسعى إلى إقامة مجتمع تعددي! وكأن التعددية مفتقدة في العراق، وليست حقيقة قائمة بالفعل، سواء في ظل نظام ديمقراطي أو شمولي!! أسوق هذا كمثل ليس إلاّ...
لقد وضع هذه الوثيقة أكثر من خمسين عاملا في شؤون الأمن والاعلام والصحة والسياسة كما نوّهت الكرّاسة، وأشرفت عليها دائرة المستشارية الامنية القومية العراقية، ولذا يستغرب القاري مع كل هذا أن يصادف جملا ناقصة، كأن يكون هناك مبتدا بلا خبر على سبيل المثال. فضلا عن قصور مدهش في صياغة الجمل المعبّرة بدقة عن الافكار والاهداف والتصورات. بل هناك بعض الاخطاء النحوية والاملائية التي تنم عن تدني في الذوق اللغوي بشتى مستوياته النحوية والصرفية والبلاغية!!
المهمة الجوهرية للأمن القومي هي حماية الوطن، أو الدولة بمعناها الواسع العريض، أي الأرض والقيم والاقتصاد والسيادة، وبالنسبة للعراق يشخص خطر التقسيم واضحا، ولكن الكرّاسة لم تعط بل لم تفرد لذلك فصلا أو إهتماما بمستواه من الجوهرية والمصيرية، خا صة على صعيد علاقة ذلك بتقسيم الثروة وتهديد الوضع الاقليمي بأخطار التفتت الاجتماعي بل الحروب الأهلية! مما يجعلنا نحكم بانها وثيقة غير جوهرية في قيمتها، لأنها لم تعالج الأمر الجوهري في ا لأمن القومي العراقي.
تعد القيم اليوم من أهم مرتكزات أو ثروات الشعوب والامم في حماية الوطن، وصيانة الدولة، وتحقيق السيادة، وتأصيل التاريخ، و إشاعة العدل، وهذا دعا الكثير من منظري الامن القومي إ لى إبرا ز دور هذه القيم في تأسيس نظرية للأمن القومي، بل نجد في بعض التعريفات المقترَحة للأمن القومي هي حماية القيم ذاتها، وتوكيدها في ضمير الامة، ومن ثم أستثمارها في نفس الوقت لحماية ما تتمتع به الامة من ثروات وممكنات، واستثمارها في نفس الوقت أيضا كأهم رافعة إ جتماعية لتحقيق وحماية السيادة والاستقلال والاصالة. ومن المعلوم أن لكل أ مة قيمها التي تعتز بها، وتستند إليها في تعزيز وجودها وحضورها في عمق التاريخ، ومن هنا ـ مثلا ـ تؤكد نظرية الامن القومي الامريكي على الحرية كقيمة إمريكية حضارية رسالية تاريخية، وتجعل منها أحد منطلقات النظرية في طرح أمنها القومي، فالحرية في نظرية الامن القومي وسيلة وهدف في آن واحد. فهل قدّمت لنا الكراسة، أي كراسة (استراتيجية الامن القومي العراقي) شيئا من هذا؟
أبدا...
كانت وريقات خالية من أي تنظير للقيم، قيمنا كعراقيين ننتمي إلى أمم متعددة، إلى تاريخ عريق، وعادات وتقاليد أصيلة، ودين عالمي، مما جعلها وثيقة فقيرة جدا، وغائرة في جزئيات رغم أهميتها، ولكن مع فقدان المرتكزات المهمة والمصيرية إحتلت هذه الجزئيات قلب الموضوع، فيما هي على اطرافه، أو هي على هامش تلك المرتكزات المهمة والمصيرية.
تكرّس الوثيقة مواقف وكانها نهائية، فهي ترى في الفيدراية ـ مثلا ـ الحل النموذجي لتقاسم السلطة، وتمضي هذا كحقيقة جوهرية، فيما هي رأي لا أ كثر ولا أقل، يصطدم برأي ا لكثير من أبناء الشعب العراقي، ومما يزيد الطين بلّة حقيقة، إن الوثيقة تمضي ذلك بصيغة غامضة، مبهمة، فأي نظام فيدرالي هو المقصود هنا، خاصة وإن الخلاف داخل مجلس البرلمان العراقي على أ شده حول نوع الفيدرالية فضلا عن الفيدرالية ذاتها، فإي جهة أعطت الحق لمعدي هذه الوثيقة حق إ مضاء كلياني شامل، لمثل هذه الأراء؟
مراجعة بسيطة لمواد هذه الوثيقة / الكرّأسة تجعلنا نكتشف أن معظم ما تمضنته وجعلت منه أنجازا عراقيا تاريخيا فريد إنّما هو مسطّر في بيانات الوزراء وتصريحاتهم، والكثير من النقاد والعالمين في الشأن الصحافي في العراق الجريح، سواء في حكومة السيد أياد علاوي أو حكومة السيد الجعفري او حكومة السيد المالكي، بل العديد من مفرداتها لا تعدو ما يتحدث به ابن الشارع العراقي، فأين هي الجدّة والانجازية والابتكار، لا أريد هنا أن أبخس حس وشعور وافكار المواطن العراقي العادي، بل بالعكس، علينا أن نستفيد من أفكاره وطموحاته وتصوراته في بناء نظرية أمن قومي عراقي، ولكن أريد أن أشير الى هذه الهالة التي أحيطت بها الكراسة أو الوثيقة، وذلك من الفرادة والجدّة والابتكار، ولنعلم ليس كل فريد هو ناجح أو يعبّر عن إبجابية، وليس كل جديد هو حسن!