من مفكرة سفير عربي في اليابان
يستقبل الشعب الياباني الربيع هذه الأيام بسعادة وفخر. وتفتح أزهار السكورا على أغصان أشجار الحدائق الخلابة، ويخرج الموطنون للاحتفال بطبيعة الربيع الزاهية. كما تمتلئ الصحافة بإخبار هذه المناسبة الجميلة. وليسمح لي القارئ العزيز أن نتدارس معا في هذه المناسبة تاريخ الصحافة اليابانية من خلال مقال للمستشار ألأعلامي الياباني أيو ايوساكي والذي نشرته مجلة يابان سبوتليت الصادرة في شهر يناير عام 2008.
اهتمت اليابان منذ عصر الميجي بالسلطة الرابعة وحررتها من القيود. كما نظمت قوانين الصحافة الأسس الأخلاقية لهذه المهنة، ليدون الصحفي وبصدق وقائع مجتمعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويعتبر المواطن الياباني قارئ جيد، فتلاحظه في القطار يجمع بين قراءة الصحف والمجلات والكتب وبين متابعة الإحداث على صفحات الانترنت التلفوني. كما طورت التكنولوجية اليابانية آلية الطباعة والنشر، لتوزع مثلا جريدة اليوميوري المشهورة يوميا عشرة مليون نسخة صباحا وستة مليون نسخة مساءا، ولتصل 95% من هذه النسخ لأبواب المكاتب والمنازل في كل قرية ومدينة. وتشتهر الصحافة اليابانية بابتعادها عن ثقافة الشتيمة والمهاترات والتزامها بأدب الكتابة. وأكدت الاستفتاءات الشعبية بأن الصحافة هي أكثر المؤسسات مصداقية لدي المواطن الياباني. ومن أهم ميزاتها حريتها الكاملة والتي حددها الدستور ويحترمها القضاء الياباني، وبأنها صناعة اقتصادية مربحة. ويتمتع الصحفي براتب مجزي وبضمان اجتماعي للصحة والتعطل والتقاعد، وبمجانية التعليم لأطفاله. وقد لعبت الصحافة دورا هاما في المحافظة على وحدة الشعب الياباني والتفافه حول قيادته، كما ساعدته على ترسيخ ثقافته الديمقراطية. ومع تحديات تكنولوجية الإنترنت الجديدة استطاعت الصحافة اليابانية أن تجدد نفسها وتحافظ على دورها، كما تعاملت بحكمة مع المطالبة الشعبية بالحد من تجاوزاتها للحريات الشخصية مع المحافظة على شفافيتها الحيادية واستمرار ابتعادها عن اللوبيات السياسية والحكومية.
وترجع تاريخ الصحافة المعاصرة لعهد الإمبراطور ميجي، والذي أستلم الحكم في عام 1867 بعد وفاة والده وهو في الرابعة عشرة من عمره. وقد تزوج الأميرة ماساكو ولم ينجب منها أطفالا، ولكنه رزق بخمسة عشر طفلا من خمسة زيجات أخرى. وقد انتهى في عصره حكم عساكر الإقطاع التكوجاوا بعد أنتصار مؤيدي إرجاع سلطة الإمبراطور، وتشكلت حكومة مركزية من خيرة الكفاءات اليابانية وتم انتخاب البرلمان. ويعتبر الشعب الياباني هذه الفترة بعصر الازدهار والرخاء بتقدم الإصلاحات الديمقراطية وبتطور التعليم وبنمو الصناعة والاقتصاد. وقد بنى الشعب الياباني معبد جميل للإمبراطور ميجي ورفعه لدرجة ألالهه بعد وفاته.
وبدأ تاريخ الصحافة اليابانية المعاصرة في منتصف القرن التاسع عشر بعد أن فرض القبطان الأمريكي بيري على اليابان انفتاحها على العالم. وقد قام الصحفي البريطاني ألبرت وليام هانس في شهر يناير من عام 1861 بإصدار صحيفة اليابان هيرالد باللغة الانكليزية. وبعدما انتقلت السلطة للإمبراطور ميجي عام 1867 وبدأت حرب البوشن، صدرت عدة صحف لمناقشة الصراعات الشعبية الجديدة. وفي عام 1871 صدرت أول جريدة معاصرة على مستوى اليابان تسمى يوكوهاما منيشي. وقد ازدهرت الصحافة في عهد الإمبراطور ميجي (1868-1912) حيث اعتبرت الصحافة المستنيرة عنصرا أساسيا في نشر المعلومة والتثقيف السياسي، والتطور الاجتماعي والاقتصادي. كما أخذت تتطور البنية التحتية للاتصالات والمواصلات، وبداء التعليم الإجباري، وانتشرت الصحف الجديدة في كل المدن اليابانية. وطورت لغة الصحافة لتصبح اللغة الشعبية، بعد أن كانت تعتمد على الكتابة بالحروف الصينية الكانجي المنتشرة بين العائلة الامبراطورية وعساكر السموراي، بينما كانت حروف الكانا اليابانية منتشرة بين عامة أفراد الشعب. وقد أصر الإمبراطور ميجي أن تنتقل كتابة الصحف لكتابة سهلة القراءة بين عامة الشعب وسميت حروفها بالهيراجانا. وقد صدرت جريدة اليوميوري عام 1874 وجريدة الاساهي عام 1879 بالكتابة بالحروف المقترحة الجديدة.
وقد صدرت الحكومة قانون لتنظيم النشر في عام 1873. وفي عام 1875 وبعد أن تطورت قوانين حقوق الإنسان صدر قانون لمنع تشويه السمعة. كما أكد هذا القانون احترام الديانات ومحاسبة دور النشر بالحبس والغرامة عندما تتعرض بتشويه سمعة قيادة البلاد. ولعبت الصحافة دورا مهما في الضغط على الحكومة لإصدار دستور عام 1880 وتشكيل البرلمان، مما أدى لانتشار الأحزاب السياسة وازدياد المسؤولية الوطنية للصحافة. كما صدرت جريدة الجيجي شمبون والتي أنشأها المفكر الياباني المستنير يوكيشي فكوزاوا والمتخصصة في الأمور الاقتصادية والعالمية. وقد كانت هذه الصحيفة مثلا جميلا للصحافة المستنيرة، وتبعتها صحف أخرى بالابتعاد عن اللوبي السياسي والحكومي، والتفرغ لتغطية الإحداث وتحليلها بتوازن ودقة. كما صدر قانون للصحافة عام 1889 ليؤكد من جديد حرية التعبير بالكلام والكتابة والنشر وضمن حدوده القانونية. وتطورت التجربة البرلمانية ليؤسس عام 1890 البرلمان الإمبراطوري ألمسماه بالديت ولتتحول اليابان لدولة عصرية. وقد أدى صدور الدستور لتطور تكنولوجي جديد حيث تم إرسال نسخ الدستور الجديد من طوكيو إلى أوساكا بالتلغراف على حساب جريدة الاساهي لتتفح أفاقا جديدة في عالم الاتصالات الصحفية. كما شجعت منشورات البرلمان الدورية لفتح الباب على مصراعيه لتطوير صناعة الطباعة والنشر.
وقد ساعدت الحرب الصينية اليابانية في عام 1894 لتثبيت دعائم الصحافة المعاصرة وانتشارها حيث كان الشعب متتوقا لسماع تقارير الحربية الدقيقة. وقد أدى النصر في هذه الحرب لتطوير الرأسمالية كنظام اقتصادي في اليابان ولتتطور الصحافة كصناعة مستقلة. وفي عام 1897 أسست صحيفة اليابان تايمز لتكون صوت عالمي لليابان، ولتوضح للعالم عن الحاجة لتعديل الاتفاقية التي فرضت على اليابان بعد حربها مع الصين. وفي عام 1904 بدأت الحرب الروسية اليابانية وكان لها دورا هاما في تطور الصحافة وتقدم فن التقارير الحربية. وأكتمل القانون الجديد للصحافة عام 1909، والذي اعد لقهر حرية الصحافة قبل الحرب وليستمر سيفا مسلطا عليها حتى عام 1945. وفي عهد الإمبراطور تيشو (1912ndash;1926) انتقلت السلطة من رجال الإمبراطور والحكومة إلى البرلمان حيث كان الإمبراطور مريض بعاهة مستديمة. فتطورت الديمقراطية وأصبح البرلمان أكثر فاعلية، لتلعب الصحافة دورا هاما في شرح الإرهاصات السياسات الحزبية. وفي عام 1923 سبب زلزال كنتو دمار كبير في منطقة طوكيو ودمرت جميع شركات النشر فيها، مما أدى لانتعاش صحيفة اساهي ومينيشي الصادرة في مدينة اوساكا. وقد تحولت الصحافة بعد الزلزال لصحافة شعبية حقيقية، حيث تجاوزت عدد صحيفتي أساهي ومينيشي المليون نسخة في اليوم الأول من يناير عام 1924. وصدرت عام 1937 قوانين عرقلت حرية الصحافة بعد أن بدأت الحرب مع الصين، وتبعتها في عام 1941 الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1936 جمعت وكالات الإنباء في وكالة مركزية واحدة وتحت السيطرة الحكومية.
ومع هزيمة الحرب العالمية الثانية ألغيت جميع القوانين السابقة الخانقة لحرية الصحافة. وتطورت صناعة الأعلام بمختلف مجالاتها الثقافية والتكنولوجية. وتعتبر اليابان اليوم من أكثر البلدان تطورا في انتاجها الصحفي حيث وصلت عدد الصحف اليومية لأكثر من ستمائة وخمسين صحيفة، وبطباعة تقدر بأكثر من سبعمائة نسخة لكل إلف مواطن يوميا. وتشتهر الصحافة اليابانية بمصداقيتها وبحياديتها عن الأحزاب السياسية، وانتقادها البناء للمجتمع الياباني، وبكشفها فضائح الفساد المالي والجرائم المخالفة للقانون، وبدقة تقاريرها وتحليلاتها السياسية والاقتصادية. فمثلا تساءلت الصحف في العام الماضي عن نزاهة احد الوزراء في تمويل حملته الانتخابية مما أدى لانتحاره حتى قبل استجوابه، كما وجهت الاتهام لأحد الأساتذة بتسريب اسأله الامتحانات المدرسية لتكتشف الشرطة جثته منتحرا في وسط الغابة بعد شهر من اختفائه. وكشفت الصحافة في عام 2005 عن أسم مهندس تلاعب في كمية الحديد في خرسانة قواعد البناء. فضجت اليابان لأهمية كفاءة البناء في الحماية من تبعات الزلازل. وبدأت الصحافة حواراتها الساخنة حول قوانين تراخيص البناء وطرق تنفيذها، واتهمت الحكومة بالإهمال، كما قررت المحكمة إخلاء وهدم جميع البنايات المشكوك في سلامتها. وقد أدى كل ذلك لإصدار البرلمان لتشريعات جديدة صارمة لمشاريع البناء. وتم سجن المهندس المتهم، وفلست الشركة العملاقة التي كان يعمل بها، واضطرت زوجته الانتحار عنه لتطهر سمعة العائلة من ذنب زوجها ولتترك طفلين يتيمين. والسؤال لعزيزي القارئ هل ستسن برلماناتنا العربية تشريعات لصحافة مستنيرة؟ وهل ستلعب هذه التشريعات دورا في بناء ثقافة ديمقراطية شعبية؟ وهل ستحرر هذه التشريعات العقل العربي من أغلاله وتحميه من خطابات التطرف والعنف والطائفية؟ وهل ستساعده على تطوير ذكاءه الذهني والروحي والعاطفي؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان