لدينا أفكار، أكثر مما لدينا من كلمات تعبر عنهاquot;(بول ريكور)
يذكرنا هوسرل بالتمييز الذي وضعه كانط حول (أحكام الإدراك) و(أحكام التجربة)، باعتبار حضورية الذاتي والموضوعي ومحاولة ترصد درجة الصدق، حيث التحقق العلمي والترصد العميق لدالة العلاقات. فيما تبقى الفرضيات قائمة وحاضرة، حتى وإن توافرت معطيات التشخيص والقائمة في فكرة (التعددية)، أو في في التطلع نحو طرح البديل، حيث البحث عن التنوع والتعايش. إنه الترصد القائم على الوعي وطريقة استعماله وتوظيفها(غريزيا أم إراديا).
في دلالة التاريخ
كيف يتم توظيف التاريخ؟ سؤال يتجه نحو الوعي بطريقة التعامل مع الدلالة، حيث طريقة الفهم لها، والمعنى الكامن فيها، ومستوى التفاعل على الصعيدين الداخلي؛ حيث الإدراك، أم الخارجي حيث الانفعال العاطفي وما يمكن أن يقود إليه من نتائج محتملة.
السؤال المتعلق بطريقة التوظيف للتاريخ يبقى يدور في فلك المعنى، حيث الفعالية التي تتفاعل ضمن ثنائية (المتاح- المأمول)، أو بتعبير آخر الممكن والرغبة، وعلى هذا فإن التشظيات تحضر بقوة، عبر هذه الثنائية، والتي تبقى تمارس ضغطا شديدا على اتجاه التفعيل للمعنى. لتتبدى صورة التنميط والتحديد وسيادة الاتجاهات والرؤى والتصورات، في الوقت الذي يراد لهذا التاريخ أن يكون نائيا بنفسه عن القبليات والتقمصات الجاهزة. وإذا كان الفيلسوف الإيطالي كروتشة قد أشار إلى أن التاريخ ماهو إلا (وجهة نظر) باعتبار خضوع لطريقة التوظيف التي يحددها المؤرخ لرموز والدلالات، فإن هذا لا يعني بإنه قد يقع ضحية للتعمية والمصادرة والتغطيات، هذا بحساب الآليات الساعية نحو إبراز المعنى فيه، والتي تتنوع الصلات فيها مابين المباشر والمجازي.
ما يكشفه التاريخ
هل يوجد تاريخ صحيح وآخر خطأ؟ وإذا ما تمت صياغة السؤال بطريقة أخرى، حول الكيفية التي يتم فيها فهم التاريخ. فإن المدار هنا يتعلق بطريقة التعامل مع المهم وغير المهم هذا بحساب التوقف عن التحقيب أم الطابع الحدثي، ومن هذا فإن التناسل للأسئلة سرعان ما يكون بمثابة المادة الرئيسة لدراسة التاريخ، فيما يغيب مدار السؤال الرئيس المتعلق بمسألة (الوعي بالتاريخ).
نعود إلى المهم وغير المهم في التاريخ، وأهمية التوقف عند طريقة التعاطي مع الوقائع والحقب التاريخية.لتتبدى لنا أهمية الحضور الذي تبرزه المعطيات المتعلقة بوجهات النظر، لا سيما وأن ثقل الأيديولوجيا يبقى حاضرا وفاعلا على العقول والأفئدة وخصوصا في المجال العربي، المبتلى بالتقسيمات الجاهزة، تلك التي سرعان ما يتم استحضارها بطريقة مفاجئة، ومن دون سابق إنذار!
لقد توقف أصحاب منهج التحليل السوسيو- تاريخي عند أهمية العاملين البيئي والنفسي، باعتبار الوقوف عند الفكرة المستندة إلى أن السر الكامن وراء تطور الإنسان يقوم على التفاعل القائم في وسطه الذي يعيش بين ظهرانيه، ومن هذا فإن العناية تقوم على أهمية التوقف عند الفاعل الجمعي، وليس في حدود التوقف عند الحادثة، وعليه فإن التاريخ لا يقوم على عامل واحد أو دور يمكن أن يناط بهذا الطرف أم ذاك، بقدر ما ينطوي على أهمية البحث في إبراز السمات الأصيلة التي تميز حضارة ما، من حيث العلاقات السائدة فيها، وطريقة التواصل مع الآخر، ومحاولة الكشف عن الأنشطة البشرية السائدة، إنه البحث في العادات والتقاليد والأمثلة الشائعة والمزاج والعقل الجمعي، والسعي إلى تفحص مسار الدور الذي يلعبه المهمشون والبسطاء، التاريخ هنا يقوم على القراءة الأفقية باعتبار محاولة الكشف عن موجهات التفاعل الطبقي، حيث الفرز لمستويات التبعية والتأثر والتأثير، والسلوكيات السائدة وطريقة الوعي بالاختلاف ترصد مجالات التوتر والصراعات مع الآخر. وبذات القدر يتبدى الفرز لمكونات التفاعل العمودي- الفئوي حيث الترصد للصراعات الثقافية والعرقية وأشكال القهر الاجتماعي ورصد مجال الفجوة الاجتماعية ومركبات التداخل الحضاري والاقتصادي.
كان غابريال تارد قد توقف عن دراسة العقل الجمعي وأثره النفسي في التأثير على الجماعات، باعتبار اندراج الأفراد في فعل التقليد، وبالقدر الذي تواجه التقاليد المستحدثة بالرفض والممانعة، فإن حالة التواصل فيها من خلال التكرار يجعل منها شائعة، إلى الحد الذي تغدو فيه جزءا من النسيج الاجتماعي، وبالتالي الاندغام في النسق الثقافي السائد.إلى الحد الذي تضيع على المراقب والمتتبع، الأصول التاريخية لتك الظاهرة في الكثير من الأحيان. وهكذا تكون القراءة التاريخية لطائفية العراق الراهن، وعرقيته وانقساميته ومحاصصته وفساده الإداري الذي تفشى، بعد أن تعرضت فيه المؤسسة للذواء والنهاية، حتى ضاعت هيبة الدولة ولم يعد فيها من شيء، سوى هذا الهيكل المتداعي، والذي يراد له أن يبقى في بيئة لم يعد فيها سوى الخراب، فيما تعيش الجماعات لوثة الانسياق خلف غرائزها البدائية وتضامناتها الفرعية، إنها البيئة التي تغيب فيها الشروط التاريخية للنهوض بالفرد، باعتبار الإصرار على تركيز مجال (التأخر)، والتخريب المقصود للمؤسسة التعليمية، تلك التي تمثل معقد الأمل وبوابة الشروع نحو الوعي بالمستقبل.