كان المفترض أن يكون عنوان المقال quot;الصين بين التبت ودارفورquot;، فالعلاقة الصينية مع الأولى مباشرة، قمعا، وتنكيلا، ومع دارفور علاقة قوية لأن الصين تدعم النظام السوداني بالسلاح، ودبلوماسيا.
هكذا كانت النية لولا نشر مقال فرنسي للتو بعنوان 'دموع المسيحيين الشرقيين'. إن هذا المقال يركز على كيفية تعاطي المجتمع والإعلام، الدوليين مع مأساة مسيحيي العراق، والأقباط المصريين من جهة، وبين الاهتمام الاستثنائي، والمشروع، بمحنة التبت؛ أي أن مقالنا لا يتناول هذه الحالات إلا من زاوية الاهتمام الدولي بكل منها.
إن سكان التبت لا يريدون غير العيش في أرضهم المغتصبة بحرية، وكرامة، وأمان، هم ودينهم، وتقاليدهم، وزعامتهم الروحية. إنهم لم يعتدوا على أحد، وهم يدعون لتلبية مطالبهم سلميا، وذلك على الأقل في ظل حكم ذاتي. أما الحكومة الصينية، فجوابها للقمع الدموي، وتشويه الحقائق، والكذب على الرأي العام الدولي.
إن الصين بلد انفتح على لبرالية الاقتصاد باعتماد اقتصاد السوق، وحقق نتائج اقتصادية عظيمة وبنسبة نمو سنوي عالية، وهي، في نفس الوقت، دولة نووية قوية، ولذا راحت تلعب دورا هاما ومتزايدا في الساحة الدولية، غير أن المشكلة الكبرى مع الصين أن النظام السياسي الصيني لا يزال النظام الموروث عن ماو، نظام الحزب الواحد، وهو نظام لا يحترم حقوق الإنسان، بل يواصل أساليب القمع البوليسي، وسياسة القهر، للأقليات، وللمعارضة.
إن رد فعل المجتمع، والإعلام الدوليين على المحنة الحالية للتبت، ساخن، وهو مشرف، وترتفع حاليا نداءات المجمع المدني الغربي لمقاطعة الألعاب الأولمبية، ولكن المقاطعة التامة ليست ممكنة، والممكن ربما هو مقاطعة سياسية بامتناع حضور عدد من رؤساء الدول في يوم الافتتاح. إن الاحتجاجات على التنكيل بأهل التبت مستمرة، وإن الاستثناء الوحيد هو الرئيس الفنزويلي شافيز، الذي أعلن دعمه للصين 'ضد المؤامرة الأمريكية''، هذه المؤامرة التي يراها في اليقظة، والمنام، وحتى في فشل هذا الفريق الرياضي أو ذاك!!
لقد لجأت الحكومة الصينية مؤخرا لمناورة جديدة بإصدار مرسوم يقضي بأنه لا حق لأي كان أن يعلن أنه راهب بوذي من غير موافقة الحكومة الصينية، وجاء المرسوم إثر تصريح الزعيم البوذي بأنه قد يشارك في اختيار خلفه. إن الغرض من المرسوم الصيني واضح، وهو انتظار وفاة الدالاي لاما لاختيار خلف له يأتمر بتعليمات الحكومة الصينية، وسبق لها أن فعلت ذلك من قبل بالمجيء بصبي وتنصيبه زعيما روحيا للبوذيين في التبت بعد وفاة الزعيم الحقيقي.
أما قضية الإبادة الجماعية في دارفور، فقد وصلت لمجلس الأمن، وتم إرسال بعض قوات السلام الدولية والأفريقية، وهذا موقف جيد، ولكن دور هذه القوات يهمشه النظام الإسلامي في الخرطوم، حيث تواصل عصاباته المسلحة تنكيلها الدموي، والاغتصاب الجماعي.
إن محنة دارفور قد أثارت اهتمام المجتمع الدولي، غير أنه لا يزال أقل مما تتطلبه حملات الإبادة الجماعية، والسبب هو دور الحسابات، والمصالح، الدولية، إذ كان على مجلس الأمن أن يكون أكثر حزما وتصميما في الموقف من نظام البشير، وكان على الإعلام أن يكون أكثر مثابرة على نشر الحقائق، وأن يستمر في استنكار المجازر.
بمقابل الاهتمام بالحالتين المارتين، فإن محن المسيحيين العراقيين، والأقباط، لا تجد لها غير صدى خافت، ومتقطع، في الإعلام الغربي، مع صمت مجلس الأمن ودوله.
يقول كاتب المقال الفرنسي ' إتيان دي مونتيتي' -
Etieenne de Montety -:
' على بعد آلاف الكيلومترات من التبت، في العراق، موطن إبراهيم، يدفع المسيحيون من أرواحهم ثمن عدم التسامح. إن محنتهم لا تثير أية مشاعر'؛ ويقول الكاتب إن الإعلام الفرنسي القادر على إثارة الضجة على حول قضية عادلة كالتبت، يظل صامتة عن مأساة المسيحيين الشرقيين، والعراقيين بالذات، وإن خبر اغتيال مطران الكلدان في الموصل قد نشر كمجرد خبر من الأخبار في الصحافة الفرنسية، وبلا متابعة.
ن المحزن أن الاهتمام الاستثنائي بمحنة المسيحيين العراقيين على أيدي المتطرفين الدينيين، والإرهابيين الإسلاميين، كان يجب أن يأتي أولا من القيادات العراقية نفسها، منذ بداية حملة الاضطهاد الديني فور سقوط صدام، وكذلك اهتمام من ممثلي المجتمع المدني العراقي، ومن رأينا، أنه كان بالمستطاع، على الأقل، خلق بعض الضجة والحركة في الغرب على أثر اغتيال مطران الموصل. أما والعراق مبتلى اليوم بمحنة أكبر، هي حرب إيران بوكالة جيش المهدي على شعب العراق، بكافة طوائفه، وأديانه، وقومياته، بإراقة للدماء، ومنع خروج الناس من البيوت، وإجبار الحوانيت على الغلق، أي فرض حصار تجويعي تام على السكان حيثما سادت قوات مقتدى الصدر؛ نقول أما اليوم، والعراق كله يحترق، فإن القضية الآنية الملحة هي القضاء على إرهاب الجيش الإرهابي الدموي لمقتدى الصدر، المسير إيرانيا، علما بأن الصدريين هم الذين بدئوا في بغداد، والبصرة حملة مطاردة، وقتل، المسيحيين، ثم انتقلت للحملة للموصل بجرائم القاعدة، وهذا ما كتبنا عنه مرارا.
أجل، إن الإعلام الدولي مقصر وباهت بالنسبة لمأساة المسيحيين الشرقيين، بينما موقفه مشرف من مآسي التبت، ودارفور.
نلاحظ أخيرا أنه في جميع الحالات الثلاث ثمة قاسم مشترك هو فقدان التسامح، ورفض الآخر، ومحاولة قهره بالقوة، سواء كان الأمر سياسيا، أو عرقيا، أو دينيا، وبالنسبة للصين يجتمع السياسي، والديني معا.