من مفكرة سفير عربي في اليابان
تمر الولايات المتحدة الأمريكية بأزمة اقتصادية حادة. فقد ارتفعت ديون الخزانة الأمريكية لأكثر من تسعة تريليون دولار، ومن المتوقع أن تزيد تكلفة حرب العراق وأفغانستان لما يقارب الثلاثة تريليون. كما ارتفعت نسب البطالة لانتقال الكثير من الصناعات الأمريكية للخارج، وزادت نسبة القروض الإسكانية التي لن تستطيع البنوك تحصيلها والتي ستؤدي لخسارة أكثر من مليون مواطن أمريكي لبيوتهم. وارتفعت نسب الفقر لتصل لتسعة وثلاثين مليون، وزادت تكلفة تأمين الرعاية الصحية ليحرم ستة وأربعين مليون مواطن أمريكي من خدماتها. وترافق كل ذلك بارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي لزيادة الاستهلاك العالمي للطاقة، وزادت أسعار الأغذية بسبب استعمال بعض المواد الغذائية كذرة في إنتاج الطاقة. وانخفضت أسعار سوق الأسهم بشكل مقلق وفقد الدولار قوته التنافسية. ومن المعروف بأنه حينما تعطس الولايات المتحدة يصاب العالم بالزكام، ولكن يبدو للبعض بأن الاقتصاد الأمريكي لم يعد بقوته السابقة لتؤثر أزمته الحالية على الاقتصاد العالمي بسبب دخول منافسين جدد في السوق كالصين والهند والبرازيل. والسؤال لعزيزي القارئ هل فعلا لن تؤثر أزمة كساد الاقتصاد الأمريكي على الاقتصاد العالمي؟
وقد تكون الحاجة ماسة لمعرفة الإجابة الصحيحة لهذا السؤال لتستعد دولنا العربية للتعامل مع أية ظاهرة كساد اقتصادية منتظره لتقليل تبعاته السلبية. فالأزمات الاقتصادية خطيرة على تنمية المجتمع واستقراره، لذلك أصبح من الضرورة متابعة مؤشرات النمو الاقتصادي، للتمكن من توقع الأزمات الاقتصادية والعمل على معالجتها والوقاية من أخلاطاتها. وليس من الحكمة أن تنتظر منطقتنا مرة أخرى لتفاجئ بأزمة جديدة كالتي واجهتها سوق المناخ الكويتية في القرن الماضي. والخطورة مما سيرافق هذا الكساد من أزمات إفلاس وبطالة وفقر واضطراب للاستقرار الاجتماعي والأمني في المنطقة، والتي هي مشغولة لركبها بالتعامل مع تحديات أزمة التطرف والإرهاب والحرب العراقية والخلاف العربي الصهيوني والمعضلة النووية الإسرائيلية الإيرانية. لذلك أصبح من الضرورة دراسة الأزمة الاقتصادية الأمريكية بتمعن ومعرفة مدى تأثيرها على المنطقة لتستعد مؤسساتنا المالية والحكومية والبرلمانية للتعامل معها.
لنتدارس عزيزي القارئ ما كتبه بروفيسور هانس ويرنر سيم، أستاذ علم الاقتصاد بجامعة ميونخ، بصحيفة اليابان تايمز في العاشر من شهر مارس من هذا العام، وبعنوان حفلة ألاقتصاد العالمي قد انتهت. فقد أكد البروفيسور بأن الولايات المتحدة تتأرجح نحو الكساد بعد أن انتهى الازدهار الاقتصادي العالمي الذي كان طويلا ومستمرا. فقد نمى الاقتصاد العالمي بنسبة 5% ولمدة أربع سنوات متواصلة وهو انتعاش لم يشهده العالم منذ سنة 1970. والعلامة الواضحة لانتهاء هذا الانتعاش هو ما أعلنه صندوق النقد الدولي بأن توقعاته بأن الاقتصاد العالمي سينخفض نموه بنسبة 1.5% في عام 2008. وقد لا يبدو ذلك للوهلة الأولى بأنه كساد اقتصادي، ولكن توقعات صندوق النقد التي وصفها البروفيسور بأنها شبه ايجابية ما هي إلا انعكاس لنسبة النمو الاقتصادي في عام 2007، وبدون أية إضافات ايجابية للنمو الاقتصادي لعام 2008 حيث لم يتجاوز النمو الاقتصادي في الربع الأول لعام 2008 عن نسبة 0%. وقد دحض الكاتب بعض الآراء التي تعتقد بأن كساد الاقتصاد الأمريكي لن يعد مؤثرا على الاقتصاد العالمي بسبب مشاركة دعم الصين مع الولايات المتحدة كمحرك لدعم الاقتصاد العالمي. ومع أن نمو الاقتصاد الصيني سيستمر ولكن يعتقد البروفيسور بأن تأثيره على الاقتصاد العالمي سيكون صغيرا جدا بسبب المساهمة الأمريكية بحوالي 28% من نسبة الإنتاج الإجمالي المحلي العالمي بينما لا تزيد المساهمة الصينية عن 5%. كما لا تزيد مساهمة جميع الدول الأسيوية بدءا من تركيا وحتى الصين عن 24% عن أجمالي الناتج المحلي العالمي، والذي تعتبر أقل من المساهمة الأمريكية وحدها. ويعقب البروفيسور بالقول بأنه قد يصل اليوم الذي قد تعطس فيه الولايات المتحدة ولن يصاب العالم بالزكام، ولكن هذه الحقيقة بعيدة حتى الآن حيث تصدر الصين 21% والاتحاد الأوروبي 23% من صادراتها للسوق الأمريكية. لذلك من المؤكد بأن يؤثر الكساد الأمريكي على الاقتصاد العالمي، وبالأخص بأن المسح الاقتصادي العالمي لتسعين دولة أخرى أكد استمرار انخفاض المؤشرات الاقتصادية لهذه الدول، بل من المتوقع أن تزداد سوءا في النصف الثاني من هذا العام. وقد انخفضت المؤشرات الاقتصادية في أوربا الغربية والشرقية أكثر من أمريكا اللاتينية والدول الأسيوية. كما ازدادت المؤشرات الاقتصادية العالمية سوءا في النصف الأول من هذا العام لتنخفض بشكل حاد منذ صدمة سوق الأسهم عام 2001، كما انخفضت وبشكل حاد مؤشر مشجين لثقة المستهلك.
لقد عاشت الولايات المتحدة سنين طويلة تصرف بدون حساب. فالتوفير العائلي الأمريكي وصلت نسبته للصفر، كما أن جميع الاستثمارات المالية الأمريكية بقت ضمن صناديق استثمار الأجنبية. وارتفعت ديون الحساب الجاري الأمريكي في عام 2006 إلى مئة وإحدى عشرة بليون دولار أي بنسب 6% من الناتج الاجمالي المحلي، وهو الأعلى منذ الكساد الكبير في بداية القرن العشرين. واستمرت الولايات المتحدة في بيع استثماراتها الخارجية سنة تلو الأخرى لتستمتع ببذخها في دولتها الكبيرة، ولن يستطيع الاقتصاد العالمي تحمل هذا الإسراف بعد اليوم. وقد تفهمت البنوك في كل مكان بأن الديون التي دفعتها لفترة الازدهار الاستهلاكي الأمريكي لن تستوفيها. كما أن ديون الإسكان المضمونة بالسندات المالية التي باعتها البنوك الأمريكية لدول العالم لا تقارن بمثلها من الأصول الأوروبية. حيث أن الأصول الأوروبية الداعمة لقروض الإسكان مضمونة بتغطيتها التي لا تزيد عن 60% من سعر العقار، بينما تغطي البنوك قروض الإسكان الأمريكية 100% من سعر العقار بل حتى أكثر من ذلك في بعض الأحيان، بحيث أن تضم صرف هذه القروض لأشخاص عاطلين عن العمل بل وبدون راتب شهري. ولم تتفهم البنوك الأوروبية هذه الأوضاع في قروض الإسكان الأمريكية بل ولم تدرسها، وأخفتها عن عيون المحاسبين بشكل مريب بوضعها تحت بند استثمارات الدول قليلة الضرائب، مما أدى لخسارة طائلة في الأموال وإفلاس الكثير من هذه البنوك، كما ستظهر خسائر فادحة جديدة في حسابات البنوك لعام 2009. كما فقدت الاستثمارات الأمريكية جاذبيتها وانخفضت أسعارها، وانخفض معها سعر صرف الدولار ليصل لأقل من سعر صرفه مقارنة للمارك الألماني في عام 1992 بعد أزمة النقد الأوربية إبان توحيد ألمانيا. وانخفضت أسعار البيوت الأمريكية لأكثر من 10% سنويا، مما سيؤدي لخسارة كبيرة لأصحاب القروض السكنية، وخسارة البنوك وإفلاسها. ولم يبقى حتى الآن نسبيا إلا سوق الأسهم والتي هي معرضة لازمة قاتلة في أية لحظة مستقبلية. وسيؤدي ذوبان كل هذه الاستثمارات لكساد حاد في الولايات المتحدة، والتي من المؤكد ستشاركه فيها الاقتصاد العالمي.
ومع محاولة الحكومة الأمريكية معالجة أزمة الكساد الاقتصادي الأمريكي، سيقل استهلاك المواطن الأمريكي، وسيؤدي ذلك لانخفاض الإنتاج وبطئ الاقتصاد، والذي سيقلل صادرات دول العالم لأمريكا مما سيؤدي لبطئ نموها الاقتصادي. كما ستنخفض نسب القروض للمشاريع المستقبلية بسبب خسارة البنوك كمية كبيرة من الأموال تقدر بمئات المليارات من الدولارات مما سيعطل الكثير من فرص الاستثمار المستقبلية. وقد حاول البنك الفيدرالي الأمريكي بخفض نسبة الفائدة على القروض لمنع الكساد، ولكنه لن يستطيع أن يوفر أية أموال إضافية. وقد وعدت الحكومة الأمريكية بخفض نسب الضرائب بما يعادل قيمته المائة والخمسين مليار دولار والتي تمثل 1% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. وقد يبدو هذا الرقم كبيرا، ولكن علينا الانتظار لكي نرى إمكانية تعويضه لما خسره أصحاب القروض الإسكانية بسبب انخفاض أسعار ممتلكاتهم وخسارة البعض الآخر لهذه الممتلكات لعدم استطاعتهم دفع قروضها، لوقف استمرار زيادة الكساد الاقتصادي الأمريكي. ويعقب البروفيسور بأنه مهما كانت النتيجة المتوقعة فأن حفلة اقتصاد العولمة قد انتهت بل باءت بالفشل.
تلاحظ عزيزي القارئ كيف تحول العالم لقرية صغيرة بسبب تكنولوجية الاتصالات والمواصلات، والذي ترافقت بتطور المعاملات البنكية ومعاملات سوق الأسهم لمعاملات الكترونية عالمية. كما أدى توحيد التشريعات التجارية لدول العالم لتسهل تجارة السوق الحرة وتحول الكثير من الشركات لمؤسسات عالمية عملاقة مملوكة من قبل الملايين من مساهمي دول العالم المختلفة. ولذلك أصبحت الأزمات الاقتصادية متشابكة وتحتاج للعمل المشترك والمتناغم بين الدول وضمن مؤسسات الأمم المتحدة. والسؤال لعزيزي القارئ هل ستضع برلماناتنا العربية تشريعات مدروسة تسهل مراقبة التباطؤ الاقتصادي والوقاية من اختلاطاته المخيفة؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان