في المقابلة التي أجرتها معه (سوزانه كوليبله Susanne Koelble) من مجلة المرآة الألمانية مع رجل سلطة مسئول من الرفاق، روى لها أنه يتعرض لنوبات شنيعة من الكوابيس، وحينما يقارن المرء بين (كوريا) و(سوريا) فليس هناك في الواقع أكثر من تغيير حرف بحرف، ويعترف الرفيق للصحيفة الألمانية أنه quot;لا يتذكر تماماً عدد (التواقيع) التي جرى بها يمينه على أحكام الإعدامات التي كانت تنفذ في الثمانينيات؟
قال الرفيق قد تكون آلافاً مؤلفة، وعدد المشنوقين بلغ ربما 150 شخصاً في الأسبوع الواحد وفي دمشق لوحدها؟
كان الجنرال يتحدث بصوت خفيض مع ضحكة ناعمة ويعقب: كما ترين أن ما حدث كان أمرا لا بد منه؛ فحافظنا على استقرار البلد، فلم يعاني من انقلاب لفترة 34 سنة؟
ثم يلتفت إلى الصحفية وهو يروي لها (أبجديات الدكتاتورية) على حد تعبير الصحفيةquot; لقد وصلنا إلى السلطة بقوة السلاح ومن أراد انتزاعها منا عليه أن يجرب حظه بقوة السلاحquot;
إن هذا التقرير الذي أوردته مجلة الشبيجل الألمانية(Der Spiegel العدد 8\2005م ص 112ـ 114) وإظهاره إلى السطح يوحي (بشيء)؟ في مثل هذه الظروف التي تمر بها المنطقة، بعد أحداث لبنان وبقاءه بدون رأس تكاد تميز من الغيظ فهي تمور، وانفجار العصيان المدني بدون دماء.
ومن يقرأه يصاب بمزيج من الدهشة والحزن، من رجل يرويها بكلمات باردة في ممارسة فظاعات لا مبرر لها سوى الاحتفاظ بسلطة زائلة، والرجل الآن بلغ 72 سنة؛ فأصبح شعره بلون الدقيق ووهن منه العظم، ولكنه يصلح نموذجاً للمناخ الثقافي، الذي يفرز أغوالاً من هذا الحجم، وهو ليس الوحيد في الغابة العربية، التي تصدر مثل هذه الأيبولا السياسية.
تقول (سوزانه كوليبله): كان الرجل جالساً على كنبة مريحة، وخلفه لوحتان بأقلام طباشيرية، لروضة جميلة؛ فلما سألته عن مصدرها وبريشة من؟ عرفت أنه اشتراها من مزاد علني في بريطانيا، وهي من إنتاج (أدولف هتلر)؟
وغني عن البيان أن من تصدرت مجلسه لوحات النازية دليلا وهادياً كانت أفكار النازية قدوته، وهتلر وضح طريقة معاملة خصومه في كتابه على نحو واضح (البتر الكامل).
تقول الصحفية الألمانية: إنه خلال العقود الأربعة الفائتة تم سحق كل معارضة؛ فأصبحوا بين مشرد ومسجون ومقتول؟!
وحينما سئل الجنرال الذي خدم النظام 32 سنة، وتقاعد قبل أشهر، عن السماح للمعارضة؟
كان جوابه: هكذا بدأنا نحن الأمر من قبل، وهكذا تبدأ الأشياء، ويجب أن تقمع كل معارضة في مهدها ومنذ البداية، والعلاج الوحيد هو (البتر Amputation)؟
وحين سألته عن الحرية الموعودة؟؟ التفت إليها وقال؟ quot;لا تصدقي السياسيين، فكلهم كذابون، ويجب أن يكونوا كذابين، ولو لم يكونوا كذلك ما بقي أحدهم منهم في السلطةquot;
قالت له الصحفية الألمانية: كيف تصف زميل الدراسة (رياض الترك) ـ وكان الاثنان في مدرسة الهاشمية في حمص ـ قال: كان ناشف الرأس عنيدا شيوعياً متعصبا،ً ولكن اعترف أن الرجل كان مستقيما!!
وحينما سألت الصحفية (رياض الترك) بالعكس عن رأيه في الجنرال كان جوابه: كان منذ تلك الأيام يحب أن يكون الزعيم دوما في المظاهرات، وكل ما سعى إليه وحققه كان فقط من خلال القمع والقوةquot;
والتاريخ يروي أن كلاهما وصل لما يريد....
فأما من أراد الزعامة والمنصب فقد وصل إلى هدفه، فسكن فيلا فخمة، تتدلى من سقوفها ثريات الكريستال، ومعارج عليها يظهرون، وتتناثر على أرضها أفخم السجاد العجمي زرابي مبثوثة، وسررا عليها يتكئون، ويجري مقابلته على مقعد بحواف مذهبة...
وأما خصمه رياض الترك فيعيش في شقة متواضعة..
quot;وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقينquot;.
وكل هذا المتاع من عرض الحياة الدنيا، بناه الجبار من خلال قتل الناس وأكل مال السحت؛ فشارك في مسح نصف مدينة حماة، وقيادة موجات الاعتقال الضارية لليساريين.
أما رياض الترك (العنيد) فقد آثر أن ينام في قبو بارد، في زنزانة مظلمة، في فرع أمني لمدة 17 سنة لم ير فيها الضوء، بدون أن يفقد عقله؟
كل ذلك من أجل (الكلمة)؟!.
كل هذا في الوقت الذي كان واعظ السلطان يقسم على الله، أنه رأى ابن الطاغية، يطير في الجنة بجناحين من فضة؟؟
فمن هو المؤمن ومن وهو الملحد؟؟
قالت الصحفية الألمانية لطلاس بحسرة: ولكن ما ذنب زميل دراستك حتى يعاقب بهذا الشكل؟
قال: كانت تعليمات الرئيس الشخصية هكذا؟
ثم رفع الجنرال يديه إلى السماء بشيء من الحيرة وهو ملتاع وقال معقبا: كل الحق عليه؟؟ كان يكفيه أن يكتب رسالة اعتذار إلى الرئيس القائد فيطلق سراحه؟
وهو ما لم يفعله رياض الترك (العنيد)؟
قالت الصحفية للجنرال: وما ذا تقول في الإصلاحات؟
قال: حسنا... ولكن يجب أن تتم بحذر زائد، وبتدرج، وتحت المراقبة، وبيد الناس الذين يسيطرون على البلد؟
وهي تشبه قصة جحا مع قطعة الحلوى أن تؤكل وتبقى!!
وتعقب الصحفية الألمانية في تقريرها: أن من جملة من يملك البلد (رامي مخلوف) وهو من العائلة المالكة، بعد أن أصبح نصفي دماغ البلد عائلتين من طرفي الأب والأم؟ والأخير أصبح إمبراطور (التلفون الجوال) أو أولاد عبد الحليم خدام الذين أصبحوا مع أولاد الجنرال يملكون مفاتيح المال والسياسة.
إنها قراءة متعمقة في أبجديات الديكتاتورية وبتعبير الصحفية الألمانية (سوزانه كوليبله) (جدول ضرب الديكتاتورية Dictator Einmaleins der) تقول الصحفية: وإذا سحقت المعارضة سحقاً فكانت هباء منبثاً، فهل الضغط الخارجي هو السبيل الوحيد لتغيير الأوضاع؟
يبدو أن أمواج زلزال التسونامي السياسية التي بدأت من العراق تضرب دولاً جديدة.
إن أوضاعاً من هذا النوع، تخلق إنساناً مريضا يثير الشفقة، من نموذج الجنرال المريض، الذي يعاني من كوابيس فظيعة؛ فيتأسف على أصدقاء الطفولة، وقد أمسى مصيرهم خلف القضبان أو على حبل المشنقة، أو جثثا افترسهم المرض والسرطان، فلا يعرف النوم وأرواح الموتى من عالم أنوبيس السفلي، تصعد عليه كل يوم، تريد خنقه في فراشه، كما خنقها من قبل!!
فبأي ذنب قتلت؟
والرجل حاول إصلاح خطئه مع الترك؛ فأرسل له بعد أن أفرج عنه جبلا من الحلويات مع التحيات القلبية، ولكن الترك رفض الاثنين.
وحين أرسل الجبار رسولا إلى الترك بكلمة إني أحبك؟؟
قال رياض الترك للرسول ارجع إلى ربك فقل له إن رياض الترك يقول لك quot;إنني احتقرهquot;.
الأنظمة تموت، وسبحان الحي الذي لا يموت، وتوينبي حينما حاول تفسير سرعة انسياح الإسلام في الشرق الأوسط في القرن السابع للميلاد، عزاها إلى حطام الإمبراطوريات، التي تقاتلت وتفانت، فلم يبق أمام القوة الإسلامية الوليدة سوى كنس مخلفات هذه الأنقاض.
والله أعلم حيث يجعل رسالته زمانا ومكانا.
وجثة سليمان حين شبعت موتا، ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المهين.
والأنظمة لها (عمر)؛ فإذا جاء أجلهم فلا يتأخرون ساعة ولا يستقدمون، وحسب (ابن خلدون) فإن عمر الدول ثلاث أجيال، وكان يمكن أن يعمر الاتحاد السوفيتي حتى اليوم، لولا غلطة جورباتشوف؛ فالأنظمة الشمولية مثل البالون (ينفس) كله بأقل وخزة إبرة، وحين يأتي الأجل فتستمر الدول فلعدم وجود الطالب، أكثر من طاقة الحيوية، و(شبنجلر) اعتبر أن روما ماتت في معركة زاما مع دفن قرطاجنة، فمات القاتل والمقتول كحضارة، فأما قرطاج فأصبحت جثة وبئر معطلة وقصر مشيد، واستمرت روما كمجرم، حتى جاء أجلها على يد البرابرة الذين غذتهم؛ فقتلوها بنفس السيف الروماني القصير..
والحضارة الفرعونية ماتت في نصف طريقها، حين تحول التحدي من الطبيعة إلى النفس؛ فسقطت مع تحدي موسى.
وحزب البعث مات منذ وصوله إلى الحكم، ومن بقي غابة ومخابرات وعصابات طائفية.
هل يمكن أن ينتقل العصيان المدني في نموذجه اللبناني إلى سوريا؟ فتحتشد الجماهير في ساحة المرجة بمليون من العباد، بدون تخريب وتكسير ودماء، وعلى نحو سلمي فيسقطوا الحكومة، ويطالبوا بتفكيك جهاز الرعب، وقطع أطراف تنين الأجهزة الأمنية؟
يبدو أن الأنظمة الثورية في البلاد العربية أنها شاخت وماتت.
وquot;عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون؟quot;
وحينما نجح اللبنانيون بهذه السهولة فلاجتماع ثلاثة أمور: التخمر الداخلي، وعظة الحرب الأهلية، وانتقال نموذج أوكرانيا إلى العربان، وهذا النجاح مهدد الآن بحزب الله والمخابرات السورية، ومايحدث في لبنان لن يبق في لبنان، فهي نسمات ربيع جديد على الشرق الأوسط ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا.
يبدو أن وضع العالم العربي نضج بما فيه الكفاية، أو هكذا يخيل لنا فنكون حالمين، فالقذافي مثلا امتص الصدمة، وحافظ على العرش (مؤقتاً)؟ ويمكن للرفاق الثوريين من جديد أن يلبسوا عباءة القديسين، ويحجوا لواشنطن بدل موسكو، فهي تغيير كلمة بكلمة، كما قلنا أن الفرق بين كوريا وسوريا حرف واحد، والمهم الديمومة على الكراسي...
فهذه هي (الديموكراسي) الديموقراطية.