مقدّمة
السؤال: هل تعد كلّ القوى السياسية العراقية التي جاءت بعد سقوط النظام السابق قوى سياسية حقيقية ارتبطت بالعراق ارتباطا عضويا وتاريخيا؟ خصوصا عندما نعلم بأنها كانت قوى معارضة متنوعة الاتجاهات منها ما له تاريخ قديم في النضال ضد نظام الحكم السابق ومنها ما تبلور على الساحة في ازمان متباينة.. وكلها كانت لها تمويلاتها من الاخرين سواء من دول المنطقة ام من دول اخرى.. وان وصولها الى السلطة كان تحصيل حاصل بفعل اعتماد الامريكان عليها منذ اكثر من خمس سنوات وخصوصا، تلك القوى المعارضة التي ساهمت في مؤتمر لندن.. اما القوى السياسية العراقية الاخرى والتي تضم قوميين وليبراليين وحتى اسلاميين، فلقد بقيت مجرد اسماء لم يكن لها اي شأن على خارطة العراق السياسية، او انها لم تجاري الوضعيات المبهمة التي وجدت عليها القوى السياسية في العراق اليوم، وفي ظل الفراغ السياسي الهائل الذي تركه النظام الراحل بعد حرب جيوش التحالف بقيادة الولايات المتحدة الامريكية واحتلال العراق في 2003.

الفراغ وملأ الفراغ
ان مرور خمس سنوات على تجربة النظام الجديد الذي حل محل النظام القديم يحيلنا الى ان نفكّر مليّا بالاجابة على سؤال مهم آخر: هل استطاعت القوى السياسية العراقية الجديدة ان تملأ الفراغ السياسي الهائل الذي تركه النظام السابق؟ وهل نجحت في ادائها، خصوصا، في عملية اخضاع المجتمع العراقي للمفاهيم التي تتبناها، والتي اعتبرها البعض مبادئ عراقية جديدة في عملية التغيير والتي باركتها الولايات المتحدة الامريكية؟ ان ما اطلق عليه بالعراق الجديد يبدو اليوم قد اخفق في تحقيق ما كانت تصبو اليه بعض القوى السياسية العراقية.. نظرا لحصول ازمة ثقة عميقة بين تلك القوى نفسها.. وان التحالفات السياسية بين بعضها البعض ما هو الا رداء يحجب حالة تبادل مصالح معينة لا غير بعيدا عن اي مشروع وطني كان يتطلع اليه العراقيون منذ ازمان طوال! فضلا عن ان تلك quot; الازمة quot; من الثقة لم نجدها اليوم، بل هي قديمة.. وكلنا يذكر طبيعة الصراعات السياسية بين مختلف قوى المعارضة العراقية قبل رحيل صدام حسين.. وان الاخير كان يلعب على تلك quot; الصراعات quot;، بل ولم يقم لكل تلك القوى اي وزن يذكر حتى قال في ايامه الاخيرة من انه قادر على ان يجمعهم كلهم في باص! علما بأن بعض تلك القوى كانت لها علاقاتها وارتباطاتها الخفية باطراف معينة من النظام السابق.

ولادة القوى السياسية
لقد كان العراق، كما يعلم الجميع، بيد قوة حزبية سياسية واحدة على امتداد عهد كل من احمد حسن البكر وصدام حسين، وهي التي هيمنت على مقاليد العراق قرابة 35 سنة، ولقد افرغ العراق من كل القوى السياسية السابقة التي عاشت بعد ان ولدت وتبلورت في العراق في ازمان مختلفة من القرن العشرين سواء من بقايا العهد الملكي ام تلك القوى اليسارية والقومية التي كان لها نفوذها في العهود الجمهورية العسكرية.. وبالرغم من وجود قوى سياسية عراقية في الخارج واغلبها كان يمّثل مكونات المعارضة السياسية ومنذ زمن بعيد، الا انها جميعا لم تستطع النجاح ابدا والانتصار بتغيير النظام والوصول الى السلطة.. ولما كانت الدواخل محرومة تماما من اية قوى سياسية، ولن يكن النظام السابق ليسمح حتى باصدار جريدة مستقلة، فقد كان من المحّرم على العراقيين تأسيس حزب او جمعية او حتى جماعة أو حتى لقاءات منظمّة في مكان معين ثابت.. تلك وهذي خلقت حوافز دفينة لدى العراقيين كي يكونوا لهم احزابا وقوى ومنظمات سياسية لا حصر لها بعد ان سقط النظام السابق على يد قوى التحالف التي قادتها الولايات المتحدة الامريكية.

خواء القوى المخضرمة والمستجّدة
وعليه، فان العراقيين سرعان ما انتشرت بينهم عدة انواع من الاحزاب وخلقت قوى سياسية متنوعة بالرغم من بدائيتها السياسية.. لقد استعادت الاحزاب القديمة والتقليدية نشاطها، وانتشرت المراكز الحزبية المتنوعة في عموم العراق.. بل وبدأت تتشكل المؤتمرات والمجالس والندوات وانبثقت جملة هائلة من الاحزاب وانفردت بعض التيارات لتغدو كتلة سياسية تفرض قوتها من رصيد الشارع العراقي.. بل واننا نجد بأن قوى وتيارات جديدة بدأت تعبر عن انتماءات بعيدا عن العراق، فثمة قوى دينية وقومية واقلياتية وطائفية ومحلية جهوية.. وقد ازداد الغلو والتطرف لدى كل القوى المتشظية والتي كانت تبعد الواقع المؤلم عن اي مشروع عراقي حضاري تحت يافطات خادعة.. ناهيكم عن ان كل الاحزاب القديمة التي استلمت مقاليد الواقع بقيت تعبّر عن تقاليدها السابقة من دون اي تجديد ولا اي تغيير لا في التوجهات السياسية ولا في انظمتها الداخلية.. كما انها غفلت عن تبني اي مشروع وطني سياسي للعراق كله.. وبدل ان تلتئم مهما كانت الاثمان، فلقد ازدادت تفسخا وطنيا وكانت ولم تزل تبعد الواقع والمجتمع عن تبني اي مظهر من مظاهر العراق الذي نعرفه منذ الاف السنين، وكأنهم اعتبروا العراق نفسه قرينا بصدام حسين.. وكأنهم صدقّوا مقولته: اذا ذهب صدام ذهب العراق.. واذا قال صدام قال العراق.. وهذه نقطة جد اساسية في تفكير القادة الجدد الذين عبروا عن استعراضات قواهم السياسية بعد السقوط، والتفافات الجماهير حول هذا الطرف او ذاك.

التجربة المرّة
وعليه، فان القوى السياسية في العراق تشكّلت من مجموعة من الأحزاب والقوى السياسية والكتل الطائفية والهيئات الدينية وتحالف الحزبين الكرديين الكبيرين.. وكلها قوى متباينة الأهمية والامتداد والعمق، ان بعض هذه القوى يمتد في تاريخه الزاخر إلى عدة عقود من الزمن، لكنه اضطر إلى تجميد عمله أو نقل نشاطه إلى المنفى، وبعضها نشأ وترعرع ونما في الخارج، واغلب بل كل تلك quot; الاحزاب quot; تلقّت مساعدات مالية ومن اطراف متعددة ومن دول كثيرة والثالث ظهر في المرحلة التي تلت الغزو الامريكي مشكلا ظاهرة غير طبيعية، بل واستثنائية من التعددية السياسية، والتي لم يعرفها العراق أو المنطقة من قبل وذلك بغض النظر عما فيها من فوائد أو ما يوجه إليها من نقد. ان من الاهمية بمكان رصد هذه quot; الخارطة quot; العجيبة الغريبة، ولكن من الاهم معرفة طبيعة كل التناقضات التي انتجها التغيير التاريخي الذي حدث في العراق.. وان في غاية الاهمية دراسة تجربة العراق لخدمة اغراضه ومجالاته الحيوية (راجع: دراستي المطولة عن quot; خارطة القوى السياسية في العراق: رؤية لما بعد التغيير quot; التي نشرت عن مؤسسة الاهرام، القاهرة).

الحالة الاستثناء
استطيع ان اشبه العراقيين بعد رحيل النظام السابق بالمحرومين من كل ما يتعّلق بالعمل السياسي، فكانت ان تكّونت خلال ايام جملة احزاب عراقية لا حصر لها وصدرت العشرات من الصحف، ولكن في ظل فراغ سياسي مهول مع غياب المؤسسات السياسية الطبيعية وسحق المؤسسات السلطوية القديمة، اذ تحدثت المصادر الاعلامية عن ولادة اكثر من مائتي حزب سياسي.. انه رقم ضخم نكاد لا نجده في اي دولة اخرى، ولكن يبدو حقيقيا نتيجة رد فعل تاريخي ازاء الحرمان السياسي الذي عانى منه العراقيون زمنا طويلا، ناهيكم عن ان العراق شهد مشاركة اكثر من مائة حزب بصفة مستقلة وتسعة ائتلافات تتكون من احزاب وقوى سياسية عديدة فازت ثلاثة منها فقط باغلبية المقاعد، فضلا عن نحو سبعين حزبا وتنظيما سياسيا اعلنوا عن مقاطعة الانتخابات التي جرت في البلاد بحجة عدم شرعيتها ـ حسب بياناتهم وتصريحاتهم ـ.. اضافة الى احزاب وقوى انسحبت من الانتخابات والعملية السياسية.. اعتقد ان العراق وحده يشهد مثل هذه quot; الحالة quot; الاستثناء، فليس الحرمان السياسي قد اتصف العراق به سابقا، بل ان اغلب المجتمعات العربية تعاني من حرمان سياسي ويبوسة في التعددية. وقد اعلمني بعض الساسة العراقيين المخضرمين ومن قيادات احزاب قومية ودينية ان العديد من الاحزاب المعارضة القديمة قد امتلأت فجأة باعداد كبيرة من الاعضاء الذين كانوا منخرطين في السابق بتنظيمات حزب البعث الحاكم.. ولقد انتبه البعض الى مثل تلك quot; الظاهرة quot; التي يعتقد انها لم تأت من فراغ، بل كانت ضمن خطط مرسومة.. وقد راج في ما بعد ان الاصطفافات السياسية الحزبية التي حدثت بعد التغيير قد جرت على اساس فرز طائفي مسكوت عنه من دون اي اشهار، فهناك بعثيون شيعة انخرطوا في احزاب وكتل شيعية، وهناك بعثيون سنّة انخرطوا في احزاب وجماعات سنّية وقوى قومية.. ولقد انتبه بعض القادة المخضرمين من المعارضين السابقين الى هذه quot; الظاهرة quot; الخطيرة وما يمكن ان يفعله في حالة اجراء اية انتخابات حزبية في حزبه، فقام برفض مئات الطلبات واقيل مئات اخرين من عضوية احزاب معينة بذاتها!

غياب المشروع الوطني السياسي
اما العدد الكبير من انبثاق الاحزاب والتيارات والقوى والتكتلات والائتلافات السياسية العراقية، فهو لا يمّثل كل الشعب العراقي، فثمة قوى سياسية خفية لا تريد ان تظهر على الملأ، وثمة جماعات متشرذمة لا يجمعها اي هدف الا هدف واحد ممثلا باخراج المحتل الامريكي من العراق، وهذه القوى تعمل تحت الارض.. ولها قوتها اللوجستية وتمويلاتها الخفية، والتي يحسب لها الف حساب ليس من الناحية السياسية، بل من النواحي الامنية. هناك قوى سياسية صغرى مجهرية وهامشية لها مواقفها المحددة وهي التي اريد تصنيفها كنخب وجماعات تضم مثقفين ومتخصصين ومهنيين وحرفيين وساسة قدامى.. وفي المقابل، فان هناك قوى قبلية وعشائرية ودينية وطائفية وعرقية وقومية ( وحتى عسكرية ) تتمتع بشبكة من العلاقات الداخلية العامة التي تؤهلها للهيمنة على الحياة. كما انبثقت مؤخرا قوى اسميت بـ quot; الصحوة quot; وهي تبحث لها عن دور ومكانة سياسية ثمنا لما قامت به قبل ان تنادي بأي مشروع وطني لخوائها السياسي! لقد تبلور عن حالة الفراغ السياسي وفي ظل سياسات امريكية خاطئة جملة من الاستقطابات المقيتة التي غّيبت المشروع الوطني العراقي منذ اللحظة التاريخية التي جرى فيها التغيير.. كما واختفت من فوق الساحة عدة قوى سياسية او انها غدت رخوة لا تقوى على الحياة ومقارعة الحيتان الكبيرة التي اعتمدت الولاءات الدينية والطائفية والقومية الكردية بديلا عن اي مشروع وطني او اي برنامج سياسي.. صحيح ان الاحزاب الصغيرة التي عّبرت عن انتماءات للاقليات الاجتماعية العراقية لم تكن تقوى على الحياة مع تلك الحيتان الكبيرة، الا انها كانت ولم تزل تعّبر عن ارادة تلك الاقليات التي تعتز بوجودها وانتماءاتها.. وهي تطمح في السعي لكسب المصالح الخاصة لكلّ منها. لقد كان الاعتماد على تقسيم القوى الكبيرة الى ثالوث: الشيعة والسنة والاكراد تحت يافطة quot; المكّونات الثلاثة quot; والتي اعتبرت بديلا عن اي مشروع عراقي سياسي موّحد.. وتلك كانت خطيئة لا يمكن غفرانها. تلك quot; الخطيئة quot; التي لم تعارضها الاحزاب المخضرمة وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي الذي وجد نفسه يساهم في الماراثون نفسه.. ولا ادري كيف يقبل اي شيوعي عراقي كل ما دار على مدى خمس سنوات وهو في قلب العملية السياسية العراقية من دون اي مشروع وطني؟
الاخطاء التاريخية
لقد وجد العراقيون انفسهم بعد سقوط النظام السابق عام 2003 امام مرحلة تاريخية جديدة ولكنها مليئة بالتحديات التي يقف على رأسها الاحتلال، وهي تهتز على قاعدة رخوة من التمزقات التي كانت ولم تزل تعّبر عنها جملة هائلة من التناقضات، وتنهض ثم تقع في مساحة واسعة من حفريات.. وهنا بالرغم من ان التحالفات والقوى السياسية العراقية قد اعادت ترتيب نفسها واوضاعها لمرحلة جديدة، ولكنها تمسرحت باسم شعارات غير مؤهلة لتطبيق مضامينها، فقد تبّنت ـ مثلا ـ شعارات quot; الديمقراطية quot; سريعا من دون اي دراسة معمقة لفشل التجربة، ولا منحت المجتمع السياسي العراقي فرصته السياسية بمرحلة نقاهة يجدد فيها تفكيره، ويحرر فيها ارادته.. لقد كانت العملية السياسية والدستورية سريعة جدا، وفي ظل اوضاع سيئة للغاية من الناحية الامنية، ولم تنفع نداءاتنا المستمرة بتهدئة العجلة التي اصابتها الاورام السريعة، ثم التشققات.. فتبلورت لأول مرة اصطفافات على أساس الدين أو الطائفة أو العرق أو العشيرة والاصطفاف مع الاحزاب والتيارات مع مناورات استعراض العضلات الدينية والطائفية، ناهيكم عن ضلوع غالبية القوى بنهب العراق بكثرة الاختلاسات والسرقات والرشاوى والعمولات والصرف والرواتب الضخمة.. وغدت التجربة تنتقل من فشل الى فشل من نوع آخر حتى وصلت الامور الى وضعية سيئة للغاية، فتحولت الاصطفافات الى تخندقات، وتحولت التنافسات السياسية الى صراعات دموية مكشوفة.. وتمحورت حول الاحزاب الكبيرة ميليشيات اوليغارية مسلحة وبدأت الصراعات مكشوفة على العلن في صراع دام على المصالح والسلطة والنفوذ والمال.. كما غدت التخندقات الطائفية تكّرس نفسها مع شرور الاعلام المحلي والاقليمي متأججة الى درجة لم تعد القوى السياسية تتفاهم على حدود دنيا وقواسم مشتركة يتلاقى عليها الجميع ويتفاهم عليها الجميع..
زيف المصالحة الوطنية
انني لست ضد مبدأ المصالحة الوطنية، ولكن ليس بالاسلوب الذي تجري عليه اليوم ومنذ اكثر من سنتين.. ولقد انتظمت القوى السياسية على هذا الاساس، مع الإشارة الى وجود بعض الاستثناءات التي لم تعتمد الانتماء الديني أو العرقي أو القبلي معيارا، ولكنها لم تكن مقبولة ولم تستطع ان تجد لها مجالا وسط تلك الصراعات. لقد تبلور مصطلح quot; المصالحة الوطنية quot; منذ زمن ليس بالقصير.. وبالرغم من عقد المؤتمرات واجراء الاتصالات بين اطراف عديدة للتلاقي والقاء الخطب المنبرية، ومع اعلام ينقل الصورة غير واضحة حول الصراعات السياسية الداخلية في العراق، الا ان كل الجهود قد فشلت، فمن المعروف ان ابرز شروط المصالحة تنازل كل طرف تجاه الاخر والاعتراف به وقبوله.. وهذا لم يحصل لدى الطرفين الاساسيين من المعادلة، اي بين انصار العهد السابق وانصار العهد اللاحق. فهل لكل من الاثنين ان يفتحا صفحة جديدة، وان يعترف احدهما بالاخر؟ هذا ما لم يحصل حتى اليوم، ولا اعتقد انه سيحصل قريبا.
واخيرا، فان الرهان اليوم على الزمن، فكلما تقدّم الزمن سيرحل كل المخضرمين السياسيين السابقين من ابناء قوى القرن العشرين مهما كانت هويتها السياسية.. وستتبلور مع الزمن الصعب قوى جديدة ينبغي التكهن بما ستكون عليه وهي في ظل اوضاع صعبة.. انني اعتقد بأن قوى سياسية عراقية جديدة ستتوالد في العشر سنوات القادمة يعّبر عنها جيل جديد، وربما ستكون لها اخفاقاتها وتحدياتها وضعف قدراتها.. ولكن ستقوم بتغيير الكثير من المفاهيم السائدة والشعارات الرائجة استجابة لضرورات العراق المستقبلية والاجتماعية خصوصا.. وسترى القوى الراحلة والحالية اليوم نفسها انها قد اساءت كثيرا بحق العراق والعراقيين.
www.sayyaraljamil.com