بمقدوري تلخيص الأوضاع في العالم العربي كما يلي quot; أسعار ملتهبة ورؤساء لا يموتونquot;، وأقول العالم العربي، هكذا في المطلق، لأن بلدانه متشابهة ويصعب الحديث فيها عن قفزة نوعية لواحدة منها عن الأخرى، فالديمقراطية كما تبين ليست مجرد توسيع شكلي لحرية التعبير والصحافة، وهي لن تكون ذات معنى لشعب تاق إليها، إلا إذا اقترنت بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وثقافية حقيقية، تتنازل بموجبها طبقة مترفة حد التخمة لصالح طبقات عريضة فقيرة ومسحوقة، تسمى أحيانا وتجاوزا الشعب.
التعميم أيضا من باب المزيد من الصدق، مرده أنني خائف كغيري من ملايين العرب، المسكونين في دواخلهم بآلاف الانتفاضات والثورات والاحتجاجات المكبوتة على الظلم والفساد والاستبداد، ومن الذين لم تخلصهم هجرة الأوطان من هواجس زوار الليل و كوابيس الملاحقة الأمنية والاعتقال التعسفي والتعذيب الجسدي والنفسي والعقوبات الجماعية للأهل، الأقارب والأباعد على السواء. والخوف فطرة بشرية، يغفر الله معها حتى ذنوب السكوت عن الحق والعجز عن تغيير المنكر والبغي والركون إلى المستبد الظالم.
الأنظمة العربية في غالبيتها، وخصوصا في حالة الدول المركزية منها، ليست لديها أي استعدادات فعلية لإجراء إصلاحات ذات مصداقية، وكأن لديها قناعة راسخة بأن مصيرها ليس بيد شعوبها، وبأنها قادرة في نهاية الأمر على تجاوز كافة الأزمات، التي هي في نظرها ليست أزمات، إنما quot;شوية مشاكلquot; يثيرها بعض الأشرار والحاقدين والمولعين بإثارة الشغب والتشجيع على الفوضى.
وما دامت فزاعة الإسلاميين والإرهابيين مقنعة للخارج، فإن التحايل على الداخل مشروع، لأن الفكرة الجبارة التي يعمل المطبلون والمزمرون على تعميمها، ليست غير تلك التي كشف عنها الراحل الفلسطيني الكبير quot;إيميل حبيبيquot; في روايته quot;المتشائلquot;، ومرادفها المثل العامي العربي quot; تمسك بالسيء حتى لا يأتيك الأسوأquot;، و ترجمتها حمد الله على كل البطالة والغلاء والرشوة والفساد والمحسوبية وتزوير الانتخابات وتأبيد الرؤساء وتحويل الجمهوريات إلى جملكيات واكتظاظ السجون والمعتقلات وإطلاق يد المعذبين والساديين وقمع المعارضين والتنكيل بهم وبأسرهم وبكل من مت بصلة لهم، وذلك حتى لا يسارع إلى إزالتها لا قدر الله، فيخسر الناس كل هذا النعيم الذي فيه يرفلون.
القدرة الشرائية للغالبية الساحقة من المواطنين، في دول كمصر و المغرب والجزائر وتونس وسوريا والعراق والأردن وغيرها، تردت إلى درجة غير مسبوقة، وأسعار المواد والسلع الضرورية، ناهيك عن الكمالية، لم تعد تختلف تقريبا عن تلك المعمول بها في أكثر الدول تقدما ورقيا، خلافا للأجور والرواتب التي لم تتعولم كما الأسعار بل ظلت على حالها مغرقة في المحلية، إن لم يقل أنها تراجعت بعدم زيادتها وبتراجع العملات المرتبطة في غالبيتها بالدولار المأزوم بإذن ساسته على الدوام.
وقد فقد الناس في العالم العربي، حق التظاهر والتعبير السلمي عن غضبهم، حتى ذلك المتصل بالحق النقابي، فبعد التهام الأنظمة والحكومات لحقهم في الاحتجاج السياسي، بحجة تهديده للثوابت الوطنية وللسلم والأمن الاجتماعيين وامكانية استغلاله من قبل الأصوليين والمتطرفين لتمرير أجندتهم الشيطانية، انتقلت إلى التهام حق الاحتجاج النقابي، بإرهاب قادة النقابات أو إفشاء الخلافات والمؤامرات بينهم، وإلى التهام أي حق احتجاجي آخر، بما في ذلك الإعلامي، عبر إخراس الصحافة بطرق قديمة ومبتكرة، كان آخرها اتفاقية الحرص على الأخلاق الحميدة والقيم الدينية.
وها أن الوجع العربي قد انتهى إلى الجوع، حيث يتدافع ملايين البشر، يتزاحمون في مشاهد مؤلمة من أجل الظفر برغيف وسد رمق، وما الغد الذي تبشر به الأنظمة العربية شعوبها يا ترى، بعد المائة مليون أمي والسبعين مليون عاطل عن العمل ومئات آلاف قوارب الموت والمهاجرين السريين وأزمات الخبز والماء والدواء المستشرية، وهل ما زال لأصحاب الحكمة والعظمة والإنجازات التي لا تنتهي والعبقرية غير المسبوقة من بشارة يسعدون بها المائة بالمائة من المصوتين لهم في ملاحمهم الانتخابية، التي تحسدهم أعتى الديمقراطيات عليها.
في الدول الغربية، والديمقراطية عامة، يملك الناس القدرة على إسقاط حكامهم سلما في أول مناسبة انتخابية، إذا لم يسقطوهم تظاهرا، حيث يفهم الحاكم إرادة شعبه قبل أن تأخذ صيغة قانونية، أما في الدول العربية، فالنزول إلى الشارع دعوة إلى الفتنة وتحريض على العنف بحسب القوانين السارية، ووزارات الداخلية والأمن تمنع تراخيص المظاهرات عن أكثر المعارضين لطفا واعتدالا، ونتائج الانتخابات معروفة عندنا سلفا، إذ لا حاكم عربي ndash; باستثناء الكويت ولبنان فيما أعلم- غادر مكانه عبر خسارة انتخابية أو بضغط برلماني، فهل من سبيل إذا أمام المواطن العربي، ليقول quot;كفايةquot;.
غير أن النزول إلى الشارع يظل برأيي الحل الوحيد ليفهم الحاكم والخارج معا، أن الأزمة بلغت أشدها وأن لا مناص من التغيير، فالتغيير قادم لأنه لم يعد للناس قريبا ما يخشون على ضياعه، أما أصحاب الأموال والمصالح فقد كانوا غالبا بلا وطن، لأن الوطن لديهم يشترى أيضا، تماما كما تشترى ذمم أهل الجاه والسلطة.