شيء مؤسف حقاً، أن تتحول الثقافة العربية الآن إلى ببّغاء، يردد الكتّاب ما يريد أن يكرسه الساسة من أفكار وتفسيرات لما يجري. وتتحول العملية إلى فكرة واحدة تعاد صياغتها بأساليب مختلفة، بعد أن تُنثر عليها بعض البهارات والتلاعب بالألفاظ. هذه ليست ثقافة، وهذا ليس فكراً يمكن أن نفتخر بهما. إنهما نفايات معلبة تعليباً براقاً زائفاً، تقدم إلى مجتمع أدخل عنوة في عنق العبودية؛ بسبب سياسة الساسة وتفسيرات العقل الثقافي المنحطّ الذي يخون الأمانة في كشف وسائل التزييف والخداع التي تُمارَس بحق المجتمع العربي.
ثلاث أفكار تلوكها الثقافة العربية لتحليل ما جرى ويجري في العراق، هي:
1- الاحتلال الأمريكي هو المسؤول عن كل شيء.
2- أَلَمْ يكن من الأفضل للعراقيين أن يبقوا على نظام صدام من أن يدخلوا في هذا النزاع الدموي؟.
3- ظهور الطائفية بسبب الاحتلال.
طبعاً من الممكن اختزال هذه الأفكار الثلاث إلى فكرة واحدة هي: الاحتلال الأمريكي. وعندئذٍ تتمّ عملية مطابقة فريدة بين ما يريده النظام العربي الدكتاتوري وما يحلل به الكتّاب العرب الذين يتربعون على عرش الثقافة العربية: رؤساء لمؤسسات، رؤساء لمهرجانات، ورؤساء لقنوات النشر والإعلام بكل صنوفها. ثمة لوبي ثقافي دكتاتوري، يعزل الثقافة العراقية عن أن تقول كلمتها، وتكشف الزيف.
من المؤكد أن النظام السياسي العربي يرفض الاحتلال بطريقة غير مشرّفة؛ بمعنى أن الرفض لا يجري علناً، أو ما يسمى في أدبيات الأخلاق العربية: الشيمة أو النخوة، إنما من خلال زعزعة الوضع الداخلي في العراق خفيةً ومن وراء ستار، أو الطعن في الظهر، عن طريق تزويد الإرهابيين والقتلة بوسائل التخريب والعنف وقتل الأبرياء وتخريب الاقتصاد ونشر الأفكار المتطرفة وسوى ذلك من مستلزمات إدامة عملية العنف بغية إفشال التجربة، لا لأنها تمّت بعملية الاحتلال إنما لأنها تزعزع كرسيّ الدكتاتورية بصدق هذه المرة.
أية قيمة أخلاقية لهذه الثقافة التي تسجد وتعبد واحداً كصدام وأمثاله من الطغاة العرب الذين يتربعون على كرسي السلطة منذ قرن؟. ألا يخجل الكتّاب العرب ndash; أجد حرجاً في استعمال كلمة: كتّاب- من الترحم على قاذورة؟. من المؤكد أن لا جواب، ويبقى قول أبو العلاء المعري هو الجواب لعقلٍ غير قادر على التحرر من وعي الدكتاتورية، بل إن العقل الثقافي العربي للأسف ساهم ويساهم في تربية مجتمع لا يستطيع أن يعيش من دون أن يؤدي فروض الطاعة اليومية لطاغية أو مستبد، إنها ثقافة الاستبداد والدكتاتورية بعينها، يقول أبو العلاء:
ونارٍ لو نفختَ بها أضاءتْ ولكنْ ضاعَ نفخُكَ في رمادِ
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيـاً ولكنْ لا حياةَ لمن تنـادي
لست مؤيداً للاحتلال الأمريكي ورفضته قبل حدوثه بأشهر في جريدة القدس العربي، وفي صحيفتين أمريكيتين، ومجلة روسية، وفضائية يابانية، ولست مؤيداً للطبيعة التي آل إليها النظام السياسي في العراق بعد التغيير [ ولهذا أسبابه التي يطول المقام عندها]، وكتبت كثيراً في نقد السياسة العراقية، وفي إحدى المرات انتقدت الرئيس جلال الطالباني في وجهه ثلاثة انتقادات لاذعة عن دور الأكراد في الحكومة وقضية كركوك وطبيعة المفاوضات التي كانوا يقومون بها مع الحكومة المركزية بشأن جملة من المسائل الاقتصادية والسياسية، وكان ذلك في لقاء ضمّ جمعاً من المثقفين والكتاب والسياسيين الأكراد في دوكان في 2005. ومع أن الرجل استقبل الانتقادات بروح رياضية، ولم يغمز لرجال مخابراته باغتيالي في أرض الكورد، لكنني وجدت أن ثمة أخطاء لابد من إصلاحها لتنظيف بلدنا العراق من الأفكار المريضة التي دائماً تأتينا من خارج الحدود كالفكر البعثي والفكر الديني المتطرف بنسختيه: السنية والشيعية. وسوى ذلك من أفكار متطرفة ومريضة هدفها المال بالدرجة الأولى، ولولا حساسية الموضوع لتكلمت بالقلم العريض وذكرت ما كان يفعله بعض أخواننا العرب أيام صدام من أفعال يندى لها الجبين، لكنهم كانوا ضعفاء الفلوس حتى لو اشتغلوا مخبرين أو منظمي موائد الليل الصاخبة، ورؤوس تُقطَف تحت جنح الليل، وفي الصباح يلوك الإعلام وكتّاب الدكتاتورية أسطوانة: القومية، والوحدة والحرية وأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. عاش القائد، يسقط الشعب، بل ليذهب إلى الجحيم.
نعم، قدورنا خاوية، وبلادنا متخمة بالثروات لكننا لم نذهب عبيداً إلى أي نظام قامع واشتركنا في جريمة قمعه لشعبه، ولا عبدنا طاغية وكفرنا بشعب أبداً. نساء عراقيات بكامل قيافتهن العراقية الجنوبية الرثة، يفترشن الأرصفة، يبيعن السجائر والخردوات، عيونهن تلاحق الزبون لا تلاحق الفريسة ولسانهن يغري الزبون بالبضاعة لا ينطق بالكلمة التي تقطع الرقبة، مؤخراتهن باردة من أثر الرصيف ومؤخراتهم دافئة من أثر ريش النعام، لكنّ كل واحدة منهن تنام ملء جفونها، على حين كأنهم في عيونهم القتاد.
كل ما يجري في العراق لا دخل للأمريكان به، وهم منه براء [ أقول هذا شهادة للتاريخ خلال ثلاث سنوات وأربعة أشهر قضيتها ببغداد زرت الجنوب والوسط والشمال فيها، وكنت مراقباً لما يجري، وذا صلة ببعض الشخصيات السياسية والدينية والإعلامية والحزبية والثقافية وشاهد عيان على بعض الجرائم التي تمت أمام عيني] كل ما يجري في العراق هو من صنع إيران وأخواننا العرب من الساسة إلى الكتل البشرية الهائلة التي يخدعها الساسة والكتاب والإعلام. كل بلد عربي يحتاج إلى زعزعة أمريكية ليصحو من رقدته، ويتلمس إنسانيته المهدورة من قبل الأنظمة القامعة والثقافة المطبلة والسائرة في ركاب الدكتاتورية والاستبداد. كل أرقام القتل في العراق، تمت بأيدي عراقية وعربية للأسف، ونال الأمريكان قسطاً من القتل تجاوز الأربعة آلاف قتيل. مع الاعتراف بوجود بعض الخروقات الأمريكية الفردية، ويجب أن لا نخلط بين ملاحقة الإرهابيين والاعتداء على الأبرياء.
وأتساءل أي بلد عربي يضحي بهذا العدد من القتلى وبهذه المليارات من أجل تغيير نظام قمعي؟!. دعونا من أسطوانة الاحتلال الأجنبي، فالاحتلال الذي يمارسه الطغاة أقسى وأقذر، والشعوب العربية تحولت إلى عبيد لا تستطيع أن تتفوه بأية كلمة سوى مديح الطغاة لتضمن سلامة حياتها. كل بلد عربي يستعمره ويحتله حكام دكتاتوريون قمعيون منذ مئات السنين. تسير قوافل الجنود الأمريكان في العراق من دون أن تثير الرعب في نفوس الناس، بل إن الأطفال يهرعون إليهم لعباً وضحكاً، لا تخاف منهم امرأة ولا شيخ عجوز، لكن حينما ينظر إليك شخص ملثم أو معمم، فإن روحك تفيض قبل أن يرفع عينه عنك.
هذه هي الحقيقة المرة التي لا يريد الحكام العرب أن يكشفوها لشعوبهم المخدوعة بشعارات الدين والقومية وسواها، شعارات رفعت من أجل الاستعباد فقط. الأمريكان رصدوا مبالغ خرافية لإصلاح المدارس والمستشفيات والشوارع وعموم البنية التحتية، لكن الذي جرى أن المقاولين العراقيين الذين تتحكم بهم المليشيات كانوا يسرقون الأموال ويخربون العمران، أموال كان من الممكن أن تجعل كل مدرسة تضاهي أرقى مدارس العالم، ومستشفيات لا تقل أهمية عن أرقى المستشفيات في أوروبا، لكننا أمة كذابة وسارقة وغاطسة في الدجل والتزييف والخداع، وهذه هي الحقيقة المرة كذلك.
كان الجنود الأمريكان يكنسون الشوارع بأيديهم بحرص شديد، فيما كانت طوابير من عمال التنظيف العراقية تتثاءب وتتمازح تارة، وتأكل تارة أخرى، وتسخر من هؤلاء الجنود في خاتمة الأمر. هذه هي الحقيقة المرة كذلك.
الأمريكان يريدون أن يعلمونا القانون، ونحن نجهد أنفسنا لتعليمهم الفوضى وخرق القانون، لقد ذكرت في مقالة نشرت في إيلاف قبل عدة أشهر، أن قانون حل الجيش العراق ومشروع اجتثاث البعثيين إنما قام به بريمر تحت ضغط الساسة العراقيين الثأريين، وقبل أيام اعترف بريمر عبر فضائية ( الحرة) ونشرت مقتطفات منه في إيلاف، أنه اتخذ القرار تحت ضغط ونصيحة الساسة العراقيين.
أتساءل: أي نظام عربي يشرك الآن كل الطوائف والقوميات في الحكم؟. في العراق، الأزيديون الذين لا يتجاوز عددهم نصف المليون لهم تمثيل في الحكم وحقيبة وزارية، والصابئة كذلك، ناهيك عن التمثيل المسيحي والكردي والتركماني والسني والشيعي. من المؤكد، أن هذا شيء مزعج جداً في التجربة العراقية، بالنسبة لمحيط عربي دكتاتوري، قامع للقوميات والطوائف والأديان بامتياز.
أتساءل: أي نظام عربي تجلده بالسياط القاسية مئات الصحف ووسائل الإعلام الأخرى دون أن يحرق الأخضر واليابس معاً؟. هل يستطيع عضو برلمان عربي أن ينتقد رئيس دولته أو رئيس وزرائه كما انتقد عضو البرلماني العراقي: عبد الناصر الجنابي ( أمين سر الحوار الوطني) رئيسَ الوزراء المالكي بطريقة قاسية، إذ خاطبه في عرضه الخطة الأمنية لى البرلمان: نحن لا نثق بكلامك؟. ومع أن الرجل متهم بالتورط مع جماعات إرهابية، إلا أن رئيس الوزراء لم يغتاله، إنما حوّل قضية تورطه إلى القضاء والبرلمان.
أعود إلى الأفكار الثلاث التي ذكرتها سابقاً، وأتساءل: أي عاقل يستطيع أن يخلّص تاريخ الدولة الإسلامية من الصبغة الطائفية؟ المجتمع العربي مجتمع طائفي، هذه حقيقة لا تحتاج إلى برهان، فالطائفة الأقل عدداً مقموعة دوماً ولا يحق لها الاختلاف في الرأي والتعبير والعقيدة والمشاركة في الحكم. لا أريد أن أخوض في التاريخ للبرهنة على ذلك، فالجميع يعرف هذا، والفتنة الطائفية موجودة قبل أن تظهر أمريكا للوجود. قبل أيام شنت الحكومة [ الشيعية كما يحلو لهؤلاء الكتّاب أن يصفوها] بشخص رئيس الوزراء الشيعي حملة قتالية استهدفت جيش المهدي ( الشيعي) وهي خطوة جريئة جدا، لم يجرؤ حتى الأمريكان على اتخاذها، ومع أنها لم تحسم ملف جيش المهدي بشكل نهائي، لكنها كانت خطوة في الاتجاه الصحيح. لكن كيف نظر ما يسمى المحللون أو المراقبون السياسيون لهذه الخطوة، اختزلوها مبتهجين بـ: القتال الشيعي الشيعي. ومن الطريف، أن هؤلاء كانوا قبل ذلك يصبون جام غضبهم على نوري المالكي لأنه لم يتخذ أي إجراء ضد جيش المهدي، متهمينه بالطائفية.
وفيما يتعلق بصدام، أقول لا وجه للمقارنة، إذ لا يعني رفض الوجود الأمريكي في العراق القبول أو التنزيه الحتمي لما كان يفعله النظام البعثي من جرائم مخزية بحق العراقيين والعرب معاً. وللتذكير أن النظام البعثي اغتصب السلطة بقوة السلاح، وصدام اغتصب السلطة من أحمد حسن البكر بالإكراه والبلطجة، وهذا يسقط أي مسوّغ شرعي لهذا النظام. وللتذكير أيضاً، أن حكومة إياد علاوي العلمانية المرضي عنها من قبل الأمريكان لم تفز بأول انتخابات حرة جرت ي البلاد، وهذا يعزز المسوغ الشرعي للحكومة، مع انتقادنا الكبير للطريقة التي تدير بها العملية السياسية.
أتساءل: ماذا لو تخلص العراقيون من مساوئ الحكم الحالي كالطائفية والارتباطات الخارجية؟ واستثمروا دماءهم التي نزفوها من أجل بناء مجتمع قائم على التعددية والمشاركة الجماعية، ترى أية تهمة سوف يلفق لنا أخواننا العرب من واقع حسد الزلزال الذي حدث في العراق وقام بمقبرة جماعية للدكتاتورية وإلى الأبد؟.
التساؤلات لم تنته بعد، ولكني تذكرت قول أبو العلاء فأحجمت على مواصلة الكلام وطرح التساؤلات.
[email protected]