لا يكفي أن نسخر أو نستهجن ما يعلنه السيد حسن نصر الله مثلاً من أنه انتصر انتصاراً إلهياً، يقيم له الاحتفالات والمهرجانات، فيما أكثر من ألف قتيل لبناني يبكيهم ذووهم، بالإضافة للتدمير المادي الذي حل بلبنان، فقد تكرر الأمر ذاته أخيراً من قيادة حماس في غزة، بعد قصف إسرائيلي خلَّف أكثر من مائة قتيل، ومع ذلك استطاع المجاهدون الحمساويون إعلان انتصارهم، ومن المتوقع ألا يتوقف مسلسل مثل هذه الانتصارات في المستقبل، لذا فعلى كل من يحاول فهم ما يجري، ألا يكتفي بالسخرية أو التندر بما يعلنه أصحاب هذه الانتصارات الإلهية، لأنها ليست مجرد شطحات أو عنتريات فردية لعقول مضروبة بالهوس والهلاوس، فهي تنتمي لتراث الفكر والثقافة العربية، القائمة على الفخر والهجاء والغزل والرثاء، وهي ما يشكل بالنسبة للعربي عالماً كلامياً قائماً بذاته، تتحقق فيه الانتصارات، وترفع رايات المجد والفخار، بغض النظر أو بالانفصال التام عن حقائق الواقع المادية، دون أن يستشعر أحد أن ثمة تناقضاً مزعجاً بين الوصف والموصوف، أو بين المجد الكلامي الذي تعبق الجو هتافاته، وبين واقع الحال البائس والمزري، فهذه الازدواجية التي ابتلي أو تمتع بها العقل المعجون بالثقافة العربية، أدت عملياً إلى نتيجتين مترافقتين كوجهي عملة واحدة، فالعالم الكلامي أو العالم الخيالي الموازي الذي حلق فيه الإنسان العربي ساعده على تحمل بؤس واقعه وجفاف صحاريه وفقرها، في المقابل فإن هذا التلهي أو التماس العزاء في العالم الكلامي قد ترتب عليه القعود عن تغيير الواقع، وتحضرني هنا قصة عربية بامتياز، تجسد فيها هذا الملمح في الفكر العربي، وهي قصة المرأة التي شاهدها الخليفة تغلي أحجاراً في قدر، لتوهم أطفالها الجياع بأنها تعد لهم طعاماً.. الأمر هنا معبر عن الفكرة أوضح تعبير، فهذه السيدة ابنة ثقافة تهرب من بؤس الواقع إلى عالم الوهم السعيد، وسوف ينشأ أبناؤها الذين يتلهون بانتظار نضج الأحجار على اللجوء لهذه الحيلة في المستقبل، تخلصاً من عض الجوع أو عار الهزيمة أو هوان التخلف والجهل، تتعدد المآسي والحيلة واحدة، هي الهروب إلى عالم رائع من صنع خيالنا، فتلك المرأة التي تغلي الأحجار لم تحاول بالتأكيد تغيير الواقع المادي، وإلا لنجحت في ذلك ولو بنسبة محدودة، كأن نجد لديها طعاماً يكفي فرد واحد، فيما ينتظره خمسة أو عشرة جوعى، لكن أن يكون قدرها خالياً تماماً إلا من الأحجار، فإن هذا يدلنا على مدى عروبة وأصالة السيد حسن نصر الله وإسماعيل هنية وخالد مشتعل وكل من على هذه الشاكلة، فهم يعيدون تسطير أمجاد هذه المرأة العربية بارعة الخيال والخداع، لكنهم تفوقوا عليها بالاستعانة بالميكروفونات والطبول والمزامير.
اليابان وكوريا الجنوبية لم تحققا انتصارات إلهية على القوات الأمريكية التي مازالت تدنس أراضيهما، ربما لأنهم بالأساس كفار ومشركين، وبالتالي لا أمل لهم في تحقيق انتصارات إلهية، لهذا استداروا إلى الواقع لتبديله، وإعادة ما تهدم منه، فصار الاقتصاد الأمريكي والعالمي رهن اقتصاديات دول شرق وجنوب شرق آسيا.
الحقيقة أن أمر أصحاب الدوجما والأيديولوجيا أبعد من مسألة الهروب من عالم الواقع إلى عالم خيالي مواز، فقد انقلبت أو تبدلت المقولات في رؤوسهم المقدسة، فصارت الوسيلة غاية، والغاية وسيلة، فالمفترض ابتداء أن العقيدة أو الأيديولوجيا تضم مجموعة من الوصايا والإشارات والتوجيهات، كفيلة حال تطبيقها بتحقيق سعادة ورفاهية الناس أو المجتمع، ونحن وإن كنا نعيب هذا التوجه الابتدائي، باعتباره أحادية فكر، تعتقل الإنسان بين جدران الدوجما أو الأيديولوجيا، وتحرمه من المرونة إزاء تغيرات الواقع وتنوع مفرداته، كما تحرمه من مناقشة ورؤية طرق أخرى، قد تكون أسهل أو أجدى، إلا أن النظر إلى الدوجما أو الأيديولوجيا كوسيلة نؤمن أو نقتنع بصلاحيتها لتحقيق غاية محددة، هي مثلاً تحقيق مصالح الإنسان وحسن تنظيم حياته، بما يكفل له السعادة والرفاهية، هذا في حد ذاته وضع ابتدائي صحيح ومقبول، بغض النظر عن وجهة نظرنا في سلبيات وإيجابيات أحادية الفكر، علاوة على ما قد يكون لنا من ملاحظات واعتراضات موضوعية على محتوى الدوجما أو الأيديولوجيا محل النظر.
ما يحدث أنه إذا ما طغت الحماسة نتيجة لعمق الإيمان أو الاقتناع بالفكرة، فإن تحولاً يحدث في نظرة عموم الناس بتأثير ثوارهم الراديكاليين أو كهنة المقدس، فتتحول الوسيلة إلى غاية في حد ذاتها، وبالذات في حالة الدوجما الدينية يسهل هذا التحول، فتصير الغاية هي تطبيق الدوجما انصياعاً لأوامر الإله، ويتراجع هنا الحديث عن الغاية السابقة، التي هي مصالح الناس، وهذا ما جاوبت به الكنيسة القبطية الأرثوذكسية صراحة على حكم المحكمة الذي يلزمها بالتصريح بالزواج لمطلق، حيث كانت الإجابة أن الكنيسة تنفذ قوانين إلهية، ولا تنصاع لرأي ورغبات البشر، هكذا صراحة دون مواربة، ودون حتى محاولة التجمل، بادعاء أن ما تتمسك به من قوانين هو في صالح المجتمع والأسرة، لقد كان رد الكنيسة واضحاً، وهو أن الإنسان من أجل الشريعة، وليست الشريعة من أجل الإنسان، ووفقاً لهذا المنطق أو الرؤية للأمور فإن النتائج العملية المترتبة على السعي من أجل الدوجما كغاية وتقييمها سلبياً أو إيجابياً، لا تعد شاهداً على صلاحية مجموعة الأفكار والاعتقادات هذه، فقد نحي الواقع عن أن يكون مرجعية، لتصير الدوجما ذاتها هي مرجعية نفسها، بحيث يقاس النجاح أو الفشل بمدى تطبيقنا للنصوص وتفسيراتها المعتمدة لا أكثر ولا أقل، وصار لدينا هنا ليس فقط عازل من القداسة يمنع المراجعة للفكر السائد، وإنما ما يحدث هو انفصال الثوار الراديكاليين وسدنة المقدس عن آمال وآلام الجماهير، التي يكون عليها في هذه الحالة أن تحتمل بصبر، وربما أيضاً ترحيب بما يلحق بها من ويلات، وهذا ما نراه جلياً حين يشرع هؤلاء الثوار والكهنة في مطالبة الجماهير بالتضحية بالغالي والنفيس، بل بالروح والدم، من أجل تطبيق وإعلاء ما يتم تقديمه لها من أفكار على أنها مقدسات صارت هي الغاية، فيما صارت الجماهير هي الوسيلة المطالبة ببذل كل ما تملك من أجل سيادة الغاية وتفعيلها في الواقع.
من هنا نستطيع أن نقيم صيحة إسماعيل هنية في جماهير غزة التي تختنق تحت حصار العالم كله لها: quot;نجوع ولا نركعquot;، تلك هي رؤية رئيس الوزراء المفترض، والتي يبثها لجماهير تتضور جوعاً، لكنها مشتعلة الحماس لتحقيق الغاية التي أقنعها بها، فالركوع صار هو التخلي عن أفكار حماس وتوجهاتها، والانتصار صار هو السير على منهج حماس، التي جعلت quot;قتل العدوquot; غايتها، كأن لسان حاله يقول quot;فلنقتل من تصل إليه أيدينا من العدو،وليكن ما يكونquot; أو quot;نموت ونجوع، لكننا لن نكف عن السعي لقتل أكبر عدد من أفراد العدوquot;، هنا صار الصراع مع العدو هو الغاية، وليس مجرد وسيلة لصنع حاضر ومستقبل أفضل للجماهير!!
هكذا صارت أزمة المنطقة ليست أزمة حقوق نسعى لاسترجاعها، ونطرق في سبيل ذلك كل الأبواب والطرق، ولم تعد مجرد أزمة أخلاقية جعلتنا ننتهك المعايير والمواثيق العالمية لاستخدام العنف في الصراع، وحولتنا من مناضلين إلى إرهابيين، يحولون أطفالهم إلى قنابل ومتفجرات، فهذه كلها مجرد أعراض للأزمة الفكرية والسيكولوجية، التي أدت إلى انقلاب الوسيلة إلى غاية، والغاية إلى وسيلة، فلا عجب والأمر هكذا أننا دون جميع الشعوب تقريباً نسير إلى الخلف، أو نسعى في عكس اتجاه مسيرة الإنسانية.
[email protected]