-1-
الأصوليون، هم أهل البيان، وهم عشّاق سحر البيان، والبلاغة.
والليبراليون، هم أهل العرفان، وهم عشّاق المعرفة، والحقيقة، والنقد الفكري.
الأصوليون يكرهون الفلسفة والفلاسفة، ويرمونهم بالإلحاد والكفر برب العباد.
الليبراليون يطالبون بتدريس الفلسفة (حيث أن بعض الدول العربية تُحرّم تدريس الفلسفة في مدارسها وجامعاتها) باعتبار أن الفلسفة أعلى أشكال التعبير عن العقل. وكذلك تدريس المنطق في المدارس الثانوية، وفي كافة أنحاء العالم العربي، كمادة رئيسة شأنها شأن العلوم والرياضيات، وذلك لضرورة الفلسفة للأجيال الصاعدة.

-2-
ومن هنا، فطن quot;إخوان الصفاءquot;، في القرن العاشر الميلادي، إلى أهمية الفلسفة التي قامت عليها الحضارة اليونانية، ثم قامت عليها الحضارة العربية في القرن الثامن والتاسع الميلادي بقيادة quot;المعتزلةquot;، وزعيمهم الخليفة المأمون.
وقال quot;إخوان الصفاءquot;:
quot;الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة.quot; (رسائل quot;إخوان الصفاءquot;، مج1، ص 427)
وقالوا أيضاً:
quot;الفلسفة أولها محبة العلوم، وأوسطها معرفة حقائق الوجود، بحسب الطاقة الإنسانية، ,آخرها القول والعمل بما يوافق العلم.quot; (رسائل quot;إخوان الصفاءquot;، مج1، ص 48).
أما المنطق، فقد اعتبره quot;إخوان الصفاءquot; quot;أشرف الأدواتquot;، وقالوا عنه:
quot;إعلم أن المنطق ميزان الفلسفة، وقد قيل أنه أداة الفيلسوف، وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات.quot; (رسائل إخوان الصفاء، مج1، ص427).
في حين أن الأصوليين أنكروا المنطق، واحتقروه، وسبّوه، وقالوا: quot;من تمنطق فقد تزندقquot;.
والمثقفون الأصوليون في كافة الأديان، يجيدون التلقين والترتيل، تلقين وترتيل النصوص فقط.
والليبراليون في كافة البلدان، يجيدون التأويل، تأويل كل النصوص.
المثقفون الأصوليون مثقفون سطحيون. فلا نرى منهم في هذه الأيام، من هو بمستوى ابن تيمية، أو أحمد بن حنبل، أو أبو حامد الغزالي، أو حتى بمستوى جمال الدين الأفغاني، أو محمد عبده.
فمن منهم هذه الأيام قادر على الوقوف في مناظرة علمية وفكرية مع ndash; مثالاً لا حصراً - برنارد لويس، أو مع صموئيل هنتجنتون، أو مع فوكوياما، كما فعل الأفغاني مع الفيلسوف الفرنسي أرنست رينان عام 1883 في المناظرة الشهيرة بباريس؟
ومن منهم يستطيع إجراء حوار فكري عميق، كما فعل الشيخ محمد عبده الأصولي مع فرح أنطون العَلْماني عام 1903، وكما فعل حديثاً جورج طرابيشي في حواره حول quot;العقل العربيquot; مع محمد عابد الجابري؟

-3-
فمعظم الأصوليين لا يقرأون إلا النصوص القديمة، ولا يعرفون شيئاً عن تيارات الفكر الإنساني. والقليل القليل منهم من يجيد لغة أجنبية. وقد حمد الله محمد عمارة يوماً، لأنه لا يجيد لغة أجنبية. ويعتمدون في معظم آرائهم على ترجمات مشوهة ومزوّرة للفكر الغربي. وحتى بالنسبة لكتب التراث، تراهم يجهلون الكثير منها، فلا يعرفونها كما يعرفها المفكرون الليبراليون كمحمد أركون، وجورج طرابيشي، ومحمد الحداد، وهاشم صالح، وعزيز العظمة، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد الشرفي، ورجاء بن سلامة، وعبد المجيد الشرفي، والعفيف الأخضر، وسواهم من الليبراليين المعاصرين. وينطبق على الأصوليين ما قاله عنهم فلاسفة quot;إخوان الصفاءquot; الخمسة (البسطي، والزنجاني، والمهرجاني، والبصري، والرفاعي)، وهم فئة quot;ما بعد المعتزلةquot;، كما يقول عادل العوا، الذين ظهروا في القرن العاشر الميلادي في البصرة (حسرتي على البصرة الآن، التي كانت quot;مدينة النورquot; وباريس الشرق، في القرن العاشر للميلاد)، وحاولوا التوفيق بين الفلسفة والشريعة.

-4-
فقد جاء في الرسالة الخامسة والأربعين من رسائلهم (52 رسالة، في الرياضيات، والعلوم الشرعية والوضعية، والعلوم الفلسفية الحقانية) قولهم في وصف الأصولية المتشددة، التي نشاهدها هذه الأيام، على أبواب الصحف والفضائيات، ونسمعها من على منابر المساجد:
quot;إعلم أن في الناموس أقواماً يتشبهون بأهل العلم، ويتدلسون بأهل الدين، لا الفلسفة يعرفونها، ولا الشريعة يحققونها، ويدَّعون مع هذا معرفة الأشياء، ويتعاطون النظر في خفيات الأمور الغامضة البعيدة، وهم لا يعرفون أنفسهم، التي هي أقرب الأشياء إليهم. ولا يميزون الأمور الجلية، ولا يتفكرون في الموجودات الظاهرة المدركة بالحواس المشهورة في العقول. فأحذرهم يا أخي، فإنهم الدجالون، الذلقو اللسان، العميان القلوب، الشاكون في الحقائق، الضالون عن الصوابquot; (رسائل إخوان الصفاء، دار صادر، مج4، ص50-51).
ويقول إخوان الصفاء أيضاً، في رسالة أخرى عن هؤلاء أنفسهم:
quot;هذه الطائفة الظلمة المجادلة المخاصمة، هم أشرَّهم على أهل الورع والدين، وأضرهم على العلماء، وأشدهم على عداوة الحكماء، الذين يخوضون في المعقولات، وهم لا يعلمون في المحسوسات. ويتعاطون البراهين والقياسات، وهم لا يحسنون الرياضيات. ويتكلمون في الإلهيات، وهم يجهلون الطبيعات. ويتصدرون في المجالس ويتجادلون في أشياء لا تفيد في الدين علماً، ولا تنتج في الحكمة فائدةquot;. (رسائل إخوان الصفاء، مج3، ص 535-536).

-5-
وبعد ألف عام (عشرة قرون) من تاريخ هذه الرسائل، بقي الأصوليون على حالهم كما نراهم الآن، ونقرأ لهم، ونسمعهم، وكأن تاريخ الثقافة العربية قد توقف عند القرن العاشر الميلادي. وهو ما حصل بالفعل. فالثقافة والفكر العربي متجمدان منذ عشرة قرون. والدليل، أننا لم نأتِ خلال العشرة قرون الماضية بشيء جديد في الفكر العربي. ولو ظهور مجموعة من المفكرين الليبراليين الذين ذكرنا بعض أسمائهم قبل قليل، لظل الفكر العربي أرضاً يباباً، كما وصفها الشاعر الأمريكي، الإنجليزي الأصل ت.إس. إليوت في قصيدته الشهيرة (الأرض اليباب).
السلام عليكم.