تعمدت التأخر في نشر هذه المقالة أسابيع قليلة عقب انتهاء القمة العربية،التي عقدت في عاصمة الصمود والممانعة العربية دمشق يومي الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من شهر مارس الماضي، كي لا أفسد متعة الشعوب العربية من المحيط الهادر إلى الخليج العربي الثائر، بقرارات القمة الاستراتيجية التي لم يسبق أن صدر مثلها في العمق والأهمية في أية قمة عربية من القمم التسعة عشر السابقة، مع ملاحظة أنه ولا قمة من هذه القمم سبق أن عقدت في عاصمة الصمود والممانعة، لذلك لم تصدر عنها أية قرارات مصيرية كما صدر في القمة العشرين، ورغم ذلك جاء من أفسد المتعة العربية بهذه القمة عبر غطرسة إيرانية لا نظير لها.
غطرسة إيرانية أفسدت المتعة العربية
تمثلت هذه الغطرسة الإيرانية التي تنمّ عن نزعة احتلالية توسعية عنصرية، في التصريحات التي أطلقها وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي المدعو رسميا للقمة العربية من قبل نظام الصمود، في مؤتمر صحفي علني عقده في أحد فنادق دمشق، حيث أعلن بكل صفاقة وقلة أدب وأخلاق وتحد للمضيف السوري وضيوفه من الرؤساء والملوك الذين حضروا والذين لم يحضروا، رفض بلاده إيران لواحد من قرارات القمة التي جددت (التأكيد المطلق على سيادة دولة الإمارات العربية المتحدة على جزرها الثلاث (طنب الكبرى و طنب الصغرى وأبو موسى)، وتأييد كافة الإجراءات القانونية والوسائل السلمية التي تتخذها دولة الإمارات لاستعادة سيادتها على الجزر، واستنكر استمرار الحكومة الإيرانية في تكريسها للجزر وانتهاك سيادة دولة الإمارات). ورغم أن القرار نصّ أيضا على (تشجيع الاتصالات بين دولة الإمارات العربية المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، لحل قضية الجزر الإماراتية الثلاث حفاظا على الإخوة العربية الإيرانية ودعمها وتطويرها)، إلا أن وزير الخارجية الإيراني، اعتبر في مؤتمره الصحفي في قلب العروبة الصامد (أن هذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة، الجزر إيرانية)، مطالبا الأمين العام للجامعة العربية والدول العربية جميعها لبذل (الجهود لخدمة القضايا العربية الرئيسية وخصوصا القضية الفلسطينية). تصوروا هذه الغطرسة و الصفاقة، ففلسطين في عرفه محتلة تحتاج لبذل الجهود، ولكن احتلال بلاده للجزر العربية الإماراتية والأحواز العربية لا يعتبر قضية أساسية، وكأن هناك احتلال مرفوض واحتلال مقبول، رغم أنه في كافة الأعراف الاحتلال احتلال، بدليل أن غالبية العرب وكل العالم أدانوا احتلال صدام حسين لدولة الكويت، وشاركت قوات عسكرية من سوريا ومصر والمغرب ودول إسلامية، قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في حربها لتحرير الكويت وطرد جيش صدام الغازي المحتل.
ما هي دلالات الغطرسة الإيرانية هذه؟
أولا: الاستخفاف بعاصمة الصمود والممانعة التي دعته لحضور القمة العربية، وكأن دولة إيران المحتلة لأراض عربية أصبحت عضوا في جامعة الدول العربية، وبدلا من احترام الدولة الداعية له والمضيفة للقمة، يصدر تصريحاته العدوانية هذه غير آبه بأية ردود فعل.
ثانيا: كان معيبا أن لا يصدر أي تصريح أو موقف سوري ردا على هذه التصريحات الإيرانية العدوانية، خاصة أن النظام السوري اكتسب بدون جدارة صفة quot; الممانعة quot; و quot;الصمود quot;، دون أن يعرف المواطن العربي خلفية ذلك في ضوء استمرار الاتصالات السورية ndash; الإسرائيلية، وعدم إطلاق النظام السوري أية رصاصة منذ عام 1973 من أجل جولانه المحتل عام 1967، ولم يرد بأي شكل على كافة الاختراقات والضربات الجوية الإسرائيلية فوق القصر الجمهوري وفي عمق الأراضي السورية، التي كان آخرها تدمير موقع عسكري في شمال شرق سوريا في السادس من سبتمبر 2007، وقد كان الرد السوري كما هو منذ عام 1967 quot; سوف نردّ في الزمان والمكان المناسبين quot;، وحتى ما قبل طرد الجيش السوري من لبنان، كان النظام السوري يعني فعلا قوله هذا، فقد كان الرد دوما من جنوب لبنان من خلال حزب الله والمنظمات الفلسطينية التابعة له، وكل ذلك على حساب خراب لبنان وتهجير مواطنيه، وقد فقد النظام السوري هذا المكان المناسب بعد انتهاء حرب تموز 2006، ووصول قوات اليونيفيل إلى جنوب لبنان، إلى حد أن حزب الله نفسه لم يطلق رصاصة واحدة منذ انتهاء تلك الحرب، وقد بدأ حزب الله يطبق نفس الاستراتيجية السورية، فقد أعلن السيد حسن نصر الله يوم السابع عشر من مارس 2008 في خطابه في ذكرى أربعينية عماد مغنية quot; أن حزب الله سيثأر لاغتيال عماد مغنية في الزمان والمكان وطريقة العقاب التي يختارها هو quot;.
ثالثا: الإعلان الصريح من عاصمة الصمود والممانعة العربية عن السياسة الاحتلالية التوسعية الإيرانية التي تهدد المنطقة كاملة وليس الجوار العربي، وهذه السياسة أطلقت عليها الصحف الروسية (التخطيط لإقامة إيران الكبرى)، كما ورد في تقرير فالح الحمراني في إيلاف يوم السادس والعشرين من مارس الماضي، حيث هناك تخوفات روسية صريحة من التخطيط الإيراني لضم الدول الناطقة بالفارسية لدائرة نفوذها، خاصة طاجيكستان وأفغانستان (نصف سكانها يتكلمون الفارسية)، حيث تسعى طهران لإقامة مجلس اقتصادي لما تطمح له (الاتحاد الفارسي)، مستغلة اندحار النفوذ الروسي من طاجيكستان التي تعتبرها إيران جزءا من إيران الكبرى، بالإضافة للتنسيق مع هذه الدول لإطلاق قناة فضائية ناطقة باللغة الفارسية.
رابعا: التدليل الواضح على أن النظام السوري قد أصبح رهينة للمواقف الإيرانية حتى لو كانت على حساب علاقاته العربية، فلا يجادل أحد في أن العلاقات السورية تتصاعد تضامنا وتنسيقا مع إيران، في حين تتصاعد ضغينة وقطيعة مع أغلب الدول العربية، مما حدا ب 11 ملكا ورئيسا عربيا لمقاطعة قمة دمشق، احتجاجا على هذه السياسة السورية التي لا يمكن فهمها، سوى أنّ النظام السوري فقد الصواب والتوازن بخصوص أهم الملفات العربية خاصة الملف اللبناني، والقطيعة مع غالبية الدول العربية أساسا بسبب هذه الملف والتعقيدات التي يضيفها النظام السوري بشكل دائم،فليس منطقيا ولا وطنيا أن يسرح المسؤولون الإيرانيون خاصة وزيري الخارجية والدفاع في دمشق تماما وكأنهم في عاصمتهم طهران. وللتذكير فقط فبعد مرور ساعات قليلة على اغتيال عماد مغنية في دمشق قلب العروبة النابض، أعلن وزير الخارجية الإيراني عن تشكيل لجنة سورية إيرانية للتحقيق في الحادث، ثم وصل لمطار بيروت للمشاركة في التشييع دون أي تنسيق مع الخارجية أو الحكومة اللبنانية. لذلك عقّب مصدر خليجي على قمة الصمود والممانعة تلك بقوله: quot; إن ما يثير السخرية أن تكلّف القمة سوريا بقيادة مهمة استعادة التضامن العربي وتنقية الأجواء العربية، وهو ما يعني تجاهل أن سوريا هي طرف في معظم الخلافات العربية العربية، بل لعلها الطرف الأبرز في هذه الخلافات quot;.
آخر المساخر الإيرانية في عاصمة الممانعة
هو ما أعلنه قبل أيام قليلة آية الله مجتبى حسيني ممثل الثورة الإسلامية في سورية، في تصريح لوكالة الأنباء الإيرانية حول الاحتفال بذكرى الخميني : (أن مراسم الذكرى ستقام في مقامي السيدة زينب والسيدة رقية في دمشق، وفي المساجد والمراكز الثقافية السورية بالتعاون مع السفارة الإيرانية والمستشارية الثقافية الإيرانية في سورية)، مشدّدا على ضرورة (إطّلاع الشعب السوري على الأفكار النيرة لمؤسس الجمهورية الإسلامية). هل هناك مسخرة واستخفاف بعاصمة الممانعة العربية أكثر من هذا؟. هل هناك أية سفارة لأية دولة في العالم تستطيع أن تفعل ذلك؟. ومن المهم سؤال آية الله العظمى المفتي العندليب أحمد حسّون: هل إقامة هذه المراسم الاستفزازية في دمشق أيضا فرض عين على كل مواطن سوري؟.
التنبه للخطر التوسعي الإيراني
لذلك فإن الخطر التوسعي الإيراني في الجوار العربي، لم يعد أمرا قابلا للنقاش بعد كل الممارسات الإيرانية في العديد من الساحات العربية الملتهبة أو القابلة للالتهاب، وفي هذه الساحات يساعد حكام إيران في تنفيذ استراتيجيتهم امتدادات داخلية عربية:
ففي لبنان، لا تستطيع الحكومة الإيرانية الوجود في الساحة اللبنانية لولا امتدادها الداخلي من خلال حزب الله، الذي لا يخفي في أدبياته الداخلية أنه يطمح لتأسيس جمهورية إسلامية في لبنان ملتزمة بولاية الفقيه، و مرجعيتها الفقهية الأساسية الرسمية في مدينة قم الإيرانية. ومن خلال الأموال الإيرانية يكسب حزب الله جماهير الفقراء خاصة في الضاحية الجنوبية من بيروت والجنوب اللبناني، ليس لأن هذه الجماهير تؤمن بقيادة حزب الله وبولاية الفقيه، ولكن لأن الحزب هو الذي وفر لهم المساعدات النقدية الإيرانية في ظل العوز والحاجة والخراب الذي أحدثته حرب تموز 2006. ويمكن لأي جاهل بأمور السياسة والحزب أن يسأل: من أين جاء الحزب بمئات الملايين من الدولارات التي مكنته من توزيع حوالي خمسة عشر ألف دولار، لكل عائلة شيعية تضررت أو هٌدمت بيوتها في هذه الحرب، وقد قدّرت المصادر اللبنانية أن ما وزعه الحزب يرقى إلى حدود مليار دولار...فمن أين جاء الحزب بهذه الملايين، وهل تسمح أية دولة في العالم بقيام دويلة داخل الدولة، كما هو في حالة دويلة حزب الله داخل الدولة اللبنانية؟. دويلة بمعنى الكلمة، تتخذ قرار الحرب والسلم ليس حسب مصالح الدولة اللبنانية بل حسب مصالح الأجندتين السورية والإيرانية، بدليل أنه لا النظام السوري ولا الإيراني يسمحان بهذه الازدواجية داخل بلديهما، فالقاصي والداني يعرف أن النظام السوري منذ عام 1965 يرفض السماح لكافة المنظمات الفلسطينية بإطلاق أية رصاصة على إسرائيل من حدوده، وكان يصدّر هذه التنظيمات للجنوب اللبناني لتطلق الرصاص من هناك، وفي أكثر من مرحلة كان حزب الله يمنع المنظمات الفلسطينية من إطلاق الرصاص على إسرائيل عندما لا يخدم هذا أجندة سورية أو إيرانية.
وفي العراق، لم يعد سرا أو موضوعا للنقاش الدور التخريبي الإيراني، وغالبا من قبل ميليشيات تابعة له، إذ لا يمكن فهم الدور الذي يقوم به مقتدى الصدر وجيشه المهدي، إلا أنه بأوامر وتمويل إيراني، فهذا المقتدى لا سياسة ثابتة له ولجيشه، فمرة يشارك في الحكومة والبرلمان، ومرة ينسحب ويجمّد عمل أعضائه، ومرة يعيث جيشه تخريبا وتدميرا، ومرة يعلن تجميد عمله، ومن مظاهرة ألفية إلى مظاهرة مليونية، ومرة يعتزل منتظرا المهدي المنتظر، ومرة يهرب إلى طهران، ومرات يعلن الاعتزال كي يتفرغ لتنمية علومه الفقهية وكأن العراق شعبا و وطنا ملكا لسياساته المراهقة هذه، التي لا تخدم الاستقرار والأمن بقدر ما هي تنفيذ لأوامر إيرانية لإبقاء الساحة العراقية مشتعلة، إبعادا لأنظار العالم عن الملف النووي الإيراني الذي يقلق العالم أجمع بما فيه المحيط العربي. وكيف سينسى العراقيون أن مقتدى الصدر وجيشه المهدي ارتكبا أول و أكبر جريمة سياسية بعد سقوط نظام صدام مباشرة، وهي جريمة اغتيال السيد عبد المجيد الخوئي المرجع الديني الشيعي البارز، في داخل العتبات المقدسة وأمام مرقد الإمام علي رضي الله عنه، مفتتحا بذلك بازار الجرائم والاغتيالات السياسية والطائفية. وقد وصف آنذاك الصحفي العراقي معد فياض الذي كان مرافقا لموكب السيد الخوئي، كيف هاجم أنصار مقتدى الصدر كل من داخل العتبات المقدسة بالرصاص والسكاكين، ثم اقتادوا السيد عبد المجيد الخوئي، وأوسعوه ضربا بالرصاص والسكاكين أيضا، إلى أن مات في عملية لا يمكن لمخرج من مخرجي أفلام الرعب الهوليودي أن يتخيل مثلها، وذلك بعد أن سرقوا ممتلكاته وأمواله، هو ومن كانوا قادمين معه من لندن فرحين بسقوط النظام السابق، فإذا مقتدى الصدر وجيشه لا يقلون استبدادا وقتلا عن ذلك النظام البائد.
القضية الفلسطينية هي الغطاء للتوسع الإيراني
وفي القضية الفلسطينية، يجد النظام الإيراني الغطاء العاطفي لدى الشعوب العربية للتمويه على دوره التخريبي التوسعي، لأنه يدرك أهمية القضية الفلسطينية عاطفيا فقط لدى هذه الشعوب، وهذا لا يكلفه سوى التصريحات الغوغائية التي دأب أحمدي نجاد على إطلاقها، فيرقص الغوغائيون العرب على ضجيجها الفارغ، وهذه التصريحات مثل عدم اعترافه بالهولوكست اليهودي، والتهديد بمحو إسرائيل من خريطة العالم، كانت وستظل مجرد جعجعة بدون طحن، لأنه يعرف قدرات نظامه الاقتصادية والعسكرية. من هنا فإن الملف النووي الإيراني لا يهدد إسرائيل والدول الغربية مطلقا، لأنها قادرة على تدمير جمهوريته الإسلامية قبل تمكنها من إطلاق أية قذيفة، وبالتالي فإن خطر هذا الملف موجه للجوار العربي أولا و أخيرا.
ويبقى في الأساس النظام السوري هو البوابة ألأساسية التي تسّهل المخطط التخريبي التوسعي الإيراني في المنطقة العربية، وكما كتب quot; المحرر العربي quot; بموقع:
www.free-syria.com
في السادس عشر من مارس 2008 تحت عنوان (كلاهما خطر، وكلاهما يقضم أرض العرب....):
quot; فحضور إيران الإقليمي وامتدادها من العراق إلى لبنان وفلسطين عبر سورية، وما يوفره لها حزب الله اللبناني من قدرة على التسلل إلى الخليج، مهدد بانهيار النظام السوري أو انقلابه بما هو يمثل حلقة الوصل الجغرافية ما بين نظام طهران وأدواته. ولو حدث لسبب ما، أن انقطعت هذه السلسلة في حلقتها السورية لوجدت طهران نفسها مضطرة إلى الانكفاء، والاكتفاء ربما ببعض حضور مؤقت في العراق. أما حزب الله ذراع إيران العسكرية الأقوى فسيجد نفسه محصورا ومحاصرا مقطوع الموارد المالية والعسكرية، مضطرا لتسوية وضعه في محيطه بشروط القوى الأخرى الحليفة أو المعادية. إذن فإن عقدة المنطقة ومستقبلها، والدور والمصالح الإيرانية المستجدة، هي في هذا النظام السوري..في بقاء حلقته أو قطعها، باستمراره أو تغييره quot;.
من هذا المنطلق تبدو خطورة النظام الإيراني على جواره العربي، وخطورة الدور السوري الذي يشكل النافذة لهذا التمدد الإيراني، وهذا يعني أهمية تدارس الوضع بمسؤولية عالية من قبل الدول العربية، لتعرف هل يمكن أن يعود النظام السوري لمحيطه العربي، أم سيظل تابعا للسياسة الإيرانية وجسرا أمينا لتسهيل هذا الدور الخطر على العرب دون غيرهم؟.
[email protected]