لم يسعدني الحظ بالتعرف على د. باسمة موسى الأستاذ بكلية طب الأسنان جامعة القاهرة، إلا عبر المكالمات التليفونية والبريد الإلكتروني.. هي واحدة من نساء مصر، وعالمة من علماء هذا الوطن في مجال الطب.. إنسانة مسالمة ودمثة الخلق إلى أبعد حد، وهي مثلها مثل كل المصريين لا تبغي من الدنيا إلا الستر، لكن الستر في حالتها -وحالة العدد المحدود من أبناء الديانة التي تنتمي إليها- يلزمه لكي يتحقق أن تحصل في وطنها على بطاقة هوية صحيحة وصادقة، وهذا بالتحديد ما ترفضه أو تعجز عنه دولتنا الموقعة على مواثيق حقوق الإنسان العالمية، والعضو في منظمة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ولسد العجز عن تحقيق احترام حقوق الإنسان المصري على أرض الواقع، تفتق ذهن القائمين على أمور دولتنا الرشيدة عن طريقة عبقرية لمواجهة الإدانات العالمية لملف حقوق الإنسان في مصر، وهي طريقة بسيطة زهيدة التكاليف، تتمثل في قيام السيد وزير خارجيتنا بإصدار بيانات رفض وتنديد بأي تدخل في شئوننا الداخلية، مع التأكيد بأن حقوق الإنسان في بلادنا محترمة quot;وميت فل وعشرةquot;، وتصاحب السيد وزير خارجيتنا في بياناته العنترية منتهية الصلاحية جوقة من المزمرين والمطبلين، تتكون بالأساس من إعلاميي السلطة ومرتزقتها، يعاونهم رهط لا بأس به من فلول الناصريين واليساريين الذي عجزوا عن استكتشاف طريق لهم يمر عبر الألفية الثالثة.
دولتنا العظيمة في بيروقراطيتها تصر على تدوين ديانة المواطن في بطاقة الهوية الشخصية، إلى هنا ولا بأس، فهذه المعلومة في البطاقة فقدت أي تأثير إيجابي أو سلبي لها، بعد أكثر من ثلاثة عقود من الفرز والاحتقان والتعصب الطائفي، فصارت الأسماء التي أطلقت على مواليد تلك الفترة تقوم بالفرز الطائفي التلقائي والمباشر، بعدما اقتصرت أسماء المسلمين على quot;ما عُبَّد وما حُمَّدquot;، واقتصرت أسماء المسيحيين على quot;مينا وميكل وبيشويquot;، وذلك على العكس تماماً من الأسماء المستخدمة في الفترة الليبرالية وامتداداتها حتى حلت على مصر بركات حكم العسكر ونكباته.
المشكلة التي أثارتها المرأة مصدر الهلع لذئاب التخلف والتعصب هو أنها وبضع عشرات (أو حتى مئات) من المواطنين المصريين يريدون تسجيل ديانتهم الحقيقية التي هي البهائية في بطاقة هويتهم، في حين أن quot;الكاتب المصري الجالس القرفصاءquot; في الألفية الثالثة يصر على أنه مادامت المادة الثانية من الدستور تنص على أن دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، فإنه لا يقبل أن يدون في خانة الديانة لأي مواطن إلا واحدة من الديانات الثلاث التي تعترف بها الشريعة الإسلامية، ورغم أنني أشك في أن quot;الكاتب المصري الجالس القرفصاءquot; في العصور الفرعونية كان يؤدي عمله بهذه العقلية، إذ لو كان الأمر كذلك لما تمكن أجدادنا من إنجاز ما أنجزوا من عمارة ينبهر العالم بها بعد خمسة آلاف عام، أو لكانوا بنوا الأهرام ثم انهارت فوق رؤوسهم بعد بضعة أشهر كما يفعل أحفادهم الآن، إلا أن الرجوع للتاريخ يبدو هنا لزوم ما لا يلزم، فما نحن فيه أن quot;الكاتب المصري الحديثquot; يرى أن عليه أن يدون في بطاقة الهوية ليس بيانات الشخص المعني الحقيقية، وإنما واجبه أن يدون بيانات على مزاجه وحسب إيمانه الخاص، ولا نقول حسب إيمان الأغلبية، لأن ليس جميع المنتمين للأغلبية يرون ما يرى كاتبنا المصري شديد الوقار والاحترام، يريد أن يدون للمواطن البهائي في بطاقته ديانة يعترف هو بها وبالتحديد الإسلام، رغم أن المواطن الواقف أمامه يقسم ويتوسل أنه ليس مسلماً وإنما بهائي، والبديل الجاهز عند quot;الكاتب المصريquot; هو أن quot;من لا يعجبه يشرب من البحرquot;، وإن كان هناك بديلاً آخر معد خصيصاً للبهائيين المصريين، وهو أن يصدر فرمان بأنهم مرتدين عن الإسلام، وينبغي أن يطبق عليهم حد الحرابة، الذي يطبق على من يحاربون الله ورسوله، وذلك بأن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، رغم أن د. باسمة موسى وجماعتها أناس مسالمون، ولا يمتلكون متفجرات ولا أحزمة ناسفة ولا سيوف وخناجر، وبل والأغلب أنهم في مطابخ بيوتهم يستخدمون سكاكين من البلاستيك أو الخشب، من فرط وداعتهم ومسالمتهم!!
نعود لذئاب الجهاد التي أصابتها المرأة والأستاذة الجامعية بالهلع، فقد اعتبروا أن د. باسمة موسى كبيرة قومها، الذين يهددون الإسلام والوطن، بمطلبهم المغالى فيه ببطاقة هوية صادقة خالية من التزييف والتضليل.. حدث الرعب والهلع في كل بر مصر ndash;على حد تصورات الذئاب المتسلحة بالهراوات- حين علموا أن د. باسمة موسى ستلقي كلمة في quot;المؤتمر الوطني الأول لمناهضة التمييز الدينيquot; الذي أقامته جماعة quot;مصريون ضد التمييز الدينيquot;، ظهر المجاهدون المناضلون أولاً في القنوات الفضائية، يحذرون ويهددون ويتوعدون: quot;الإسلام في خطرquot; وquot;الوحدة الوطنية في خطرquot;، ومادام هناك خطر فلابد من استدعاء الأشباح الإسرائيلية والأمريكية، فما من خطر سواء حقيقي أو وهمي إلا ويجب أن يأتي إلينا من أمريكا وإسرائيل، ذلك حتى يتم حبك فصول الدراما أو الملهاة الدرامية.
ثم انتقل المجاهدون بهراواتهم وببيجامات النوم إلى مقر نقابة الصحفيين المقرر عقد المؤتمر به، لاحتلاله درءاً للخطر الذي يتهدد الوطن والدين، جراء عشر دقائق كانت محددة بجدول أعمال المؤتمر لتتحدث فيها د. باسمة موسى عن عذاب قومها مع quot;الكاتب المصريquot; وفهمه الخاص لمفهوم المواطنة المنصوص عليه بالدستور، ولكي يأخذ جهاد المجاهدين طابعاً عروبياً أصيلاً، فقد لجأوا إلى جانب أساليب البلطجة إلى رفع الشعارات الساخنة في مواجهة الخطر المحدق: quot;وا إسلاماهquot; و quot;مؤامرة إسرائيلية لتخريب مصرquot;، بل وإمعاناً في التضليل وخداع الجماهير كتبوا على بعض اللافتات quot;عاشت الوحدة الوطنيةquot; ومعها شعار الهلال مع الصليب.. الكذب والتزييف والبلطجة صار مباحاً ومشروعاً من أجل درء الخطر الذي تشكله عالمة الطب د. باسمة موسى!!
وقد شاء القدر إنقاذ مصر مما كان يدبر لها، وذلك بفضل هؤلاء الفتية حاملي الهراوات لابسي البيجامات، ولم تدخل د. باسمة موسى إلى مقر نقابة الصحفيين ومعقل الحريات، ولم تتحدث عن مأساة عدد من المواطنين المصريين، كل ما يطلبونه هو أن تعاملهم دولتهم ومواطنيهم معاملة تحترم إنسانيتهم وأبسط حقوقهم!!
بعد هذه المأساة الملهاة يحتار المرء ماذا يقول أو يفعل، هل ينحني احتراماً لتلك المرأة التي أصابت ذئاب التعصب بالهلع، أم أن الأوفق هو مط الشفاه بازدراء وأسى، للحال الذي وصلت إليه بلادنا مصر المحروسة؟!!
لكن من يدرس تاريخ الشعب المصري لابد وأن يخلص إلى أن هذا الشعب وإن كان يصبر طويلاً كأنه غائب، إلا أنه حين يستيقظ يكتسح كل ما سمم حياته من نفايات، وأن د. باسمة موسى لن تصمت، ولن يصمت الإنسان المصري على انتهاك حقوقه وإنسانيته من كل مغامر وبلطجي ومدعي تدين وسارق أقوات، ولن تعيد الشعب المصري عن صحوته قوات أمن مركزي متراصة، ولا هراوات وجنازير وخناجر سفلة وقتلة، فهذا الشعب أقوى من الزمن ومن كل ما حل به عبر تاريخه الطويل ومن نوائب، وهو قادر على عبور مخاضة التخلف والتدهور التي دخل إليها منذ ستة عقود، ليشق طريقه بثبات نحو الألفية الثالثة.