عنوان هذه المقالة هو عنوان كتاب لعالم الاجتماع علي الوردي فوجب قراءته...
صديقي فتحي التركي يتكلم في السياسة مثل تصليح جير السيارة، وتنظيف الكارباريتور، فقد أقسم لي مع زوجته أن صدام لم يعدم، وإنما كل القرائن تشير إلى من أعدم هو شبيه له، فما قتلوه وما شنقوه ولكن شبه لهم، في آيات يقرأها مسيلمة الصحاف.
تابع فتحي وهو يرفع حاجبيه: لقد سمعت بنفسي بوتين يقول هذا؛ إن من أمسكوا به ليس صداما، ولا يعقل أن يكون هو، فليس هذا في طبع صدام...
وإن لم تخطئني الذاكرة فقد تناول العاني في قناة العربية يوما والأمريكيون يمشطون الأرض بحثا عن صدام، أن الإشاعات تقول بوجود عشرين شبيها له؟؟
إن الأسطورة مادة جيدة في تشكيل التراث الشعبي... ولكن تسلق الظلال عادة غير حميدة!!
وفي مدينة القامشلي التي ولدت وعشت فيها حتى سن المراهقة، من الزاوية الشمالية الشرقية من سوريا، كانت والدتي تؤكد لي على نحو يقيني، أن لا نلقي الماء الساخن على الأرض، حتى لا تكتوي به الجن الساكن تحت أقدامنا.
وكانت في كل عاشوراء من شهر محرم تطبخ الحبوب احتفالا بشهادة الحسين. ولم تكن أمي شيعية، ولم تكن تفقه في الخلافات المذهبية، أكثر من معرفة فلاح برياضيات التفاضل والتكامل.
وعندما عبرت الحدود الأردنية بسيارتي باتجاه غابة البعث السورية، قفز إلى سيارتي اثنان من عناصر المخابرات الأردنية، فاقتحموا السيارة طلبا لنقلهم بطريقة مؤدبة إلى منازلهم، على بعد مائتي كلم، فهذه أبسط حقوق الضيافة، وفي الطريق أقسم أحدهم أن صحابة مؤتة، وهي مكان المعركة في الأرض الأردنية، يقومون للأذان كل صباح فيسمعهم الفلاحون، فلم يكن أمامي إلا أن أصغي للخرافة بكل أدب مع رجال الأمن الأشاوس....
ولم نكن نعرف ما معنى شيعة وسنة وعلوي ودرزي، فقد كان صديقي رافع أبو الحسن درزيا، الذي كان يشكو من ناميات أنفية يومها، فلا يصدر صوته إلا شخيرا، وكان من أحب الأصدقاء إلى قلبي، كما كان جودت صديق الحارة علويا، وكنت كل يوم في بيتهم؛ حتى فتح حافظ الأسد وعصابته في سوريا باب جهنم هذا؛ ولكن لا يصرح بهذا أحد، والكل يعرف هذا ويخفيه، والكل ينكره في العلن، في تواطيء على كذب لابد منه.. ونحن نعرف أن الخراجات إن لم تفتح جراحيا للخارج فتحت للداخل فقتلت المريض تسمما.
وهذه الظاهرة من احتلال الأساطير الضمير الشعبي، تحمل الرمزية العميقة، وهي في عمومها ليست ظاهرة عربية إسلامية، بل هي في عمومها إنسانية؛ فقد بقيت الإشاعات حول حياة هتلر إلى فترة طويلة، كما في أساطير الشيعة، حول الإمام الذي لا يناله الزمن فهو سرمدي، وسيبعث يوما فينشر الأرض عدلا، بعد أن ملئت جورا، وهي أساطير كل مجموعة تفقد قدرة تقرير المصير، وتهزم في معركتها السياسية، فتلجأ إلى سلاح الأسطورة سبيلا، وهي آلية سيكولوجية لمنح التبرير عن فهم الحياة ووضعها غير المحتمل غير المفسر المملوء بالظلم والظلمات.
ويجب تفهم خرافات كل طائفة، شيعية كانت أم سنية درزية أم علوية سلفية كانت أم صوفية، واعتبارها نوعا من العلاج الذي لابد منه؛ فيجب رحمتهم بالإصغاء إلى عفاريتهم وخرافاتهم، مثل أي طفل غارق في الخيال والكذب..
وإذا سمعنا يوما أن (موسى الصدر)، الذي اختفى في ليبيا، قد بعث من مرقده، فزحفت الجماهير تهتف من جنوب لبنان حتى أصفهان باسمه؛ أنه المهدي المنتظر، فيجب أن لا نتعجب ونعتبر أن الأمر جدا طبيعي، وضروري لإشباع نهم الأسطورة عند جماهير عمياء.
وهو ما فعلته الكنيسة مع أسطورة المسيح الذي صلب، فكيف يمكن فهم مثل هذه الفاجعة؟ بل وأين التفسير في رب يملك المصائر؟ أن ينزل على صورة ابنه المفدى؟ فيصلب نفسه تضحية للبشر؟ فينجو البشر من الخطيئة الأولى التي ارتكبها آدم...
إنها خرافة كبيرة... ما زالت تغذي ضمير مليار وربع من البشر، ولكن لابد منها لمسك رقاب البشر ودفع الضريبة.. فالجماهير بحاجة للخرافات، أمام واقع غير قابل للتفسير، يهزم فيه المسيح ويختفي عن مسرح الأحداث..
كما أن خمس الدخل لآيات الله، والعشر للكنيسة، شيء رائع لإمداد رجال الكهنوت ومؤسساتها بالطاقة!!
لقد كان بولس ساحرا في إخراج الأرانب من القبعات السوداء، كما يفعل أئمة الدين من كل صنف زوجان..
فكهنة نيقولا القيصر يرسلون بالمبخرة سبعة ملايين إلى الإعدام.. في أنهار من دماء إلى الحرب العالمية الأولى...
والخميني أرسل مليونا من الشباب، إلى حقول الموت، تحصدهم رشاشات صدام باسم الأئمة..
وكل الحروب الصليبية حفزت وغذيت لاسترجاع بيت المقدس من الملاحدة المسلمين..
إن تاريخ البشرية مهزلة كاملة..
وقصة الحسين كرم الله وجهه تدخل في هذه البانوراما، فمع أنه كان الخاسر، فقد نال من الخلود والتعظيم عند الشيعة، في الواقع العملي أكثر من جده المصطفى، صلوات الله عليه، وهي تحكي قصة خرافة المنطق، وهزل التاريخ، وعرج الحقائق..
فقد كان محمد ص وليس الحسين، هو من فاز ونجح نجاحا كاملاً بكل المقاييس، خلافا للحسين الذي خدع وهزم وقتل، فالشيعة يجلدون أنفسهم بالسلاسل والسواطير كل عام في ذكرى الهزيمة العظمى.
كما يفعل اليهود مع تدمير بيت المقدس على يد تيتيوس القائد الروماني عام 70 ميلادي.
أو ما فعله سيء الذكر ميلوسوفيتش الصربي في البكاء على أطلال معركة (أمسل فيلد) عام 1389م، حين هزم الصرب وقتل ملكهم (لازار) في تلك المعركة في مواجهة العثمانيين، وسقطت أوربا الشرقية لمدة خمس قرون في قبضة الأتراك، فقام المجرم (ميلوسوفيتش) في إحياء الذكرى، بعد مرور 600 سنة على تلك المعركة، يكرر ما يقوله الصهيونيون، ليلتصق لساني بحلقي إن لم أذكرك يا جبل صهيون..
أو ما فعله (إيفان الرهيب) وهو يحرق قازان مملكة التتر الإسلامية في القرم وجنوده القوزاق يزعقون الله في جانبنا، أو ما فعله جماعة مقتدى الصدر في حفلة صدام المصدوم المشنوق، حين كانوا يصلون على آل البيت أكثر ممن أسس البيت كله. بتشديد الصوت والنبرة عند الهتاف بالصلاة، وصدام يتدلى مثل بندول الساعة من حبل المشنقة المجدول بعناية.
الوهم لا يعني الحقيقة، ولكن هذا وهم...
فالأوهام أشد أثرا من الحقائق في حياة الناس..
والجماهير تحب الأساطير، ويمكن أن تمشي بوقود وهمي..
وفي جنازة عبد الناصر خرج الملايين، وهناك من انتحر حزنا عليه، فرافقه إلى عالم أنوبيس السفلي مع الفرعون بيبي الثاني... وهذا يؤكد مهزلة العقل البشري..