الحلقة الأولى
فى تمهيده لكتاب quot; ثورة الفكر في عصر النهضة الأوروبية quot;، يقول لويس عوض: quot; من يتأمل هذه الدراسات يجد أنها تمثل أهم مقومات الرينسانس المعروف بعصر النهضة الأوربية، ويجد من جهة أخرى أنها تمثل الدعامات الفكرية التى قامت عليها الحضارة الغربية الحديثة quot;. هذه المقومات أختارها عوض بعناية شديدة، وتخير أيضاً من عبر عنها من شخصيات ذلك العصر بدقة يحسد عليها. وهذا الاختيار يكشف عن جانب مهم من شخصيته، فلم يكتف عوض أو يترجم أو يبدع فى أى شئ، وإنما كان على ثقافته الموسوعية يختار ما يكتب عنه، وهذا الاختيار فى المحصلة النهائية تجده وشيك الصلة بمشروعه الفكرى.
ولا نقصد اختياره مثلا لترجمة quot; فن الشعرquot; لهوارس بدلاً من ترجمة quot; فن الشعر quot; لأرسطو، أو ترجمته لـ quot; بروميثيوس طليقاً quot; لشيلى، وعدم ألتفاته لمقدمة quot; كرومويل quot; لفيكتور هوجو التى تعتبر أنجيل الرومانسية، وإنما نقصد أن اختياره كان لنماذج بعينها (يستنطقها) ويقول من خلالها ما يريد قوله.
وليس أدل على ذلك فى كتابه سالف الذكر من شخصية الفيلسوف والراهب الإيطالي quot; تومازو كامبانيللا quot;، فحياته فقط وما تعرض له من شتى أنواع التعذيب والتنكيل والاضطهاد من أجل تمسكه بمبادئه وأفكاره، جديرة وحدها بالدراسة والبحث، ناهيك عن يوتوبياه quot; مدينة الشمس quot; أول يوتوبيا فى التاريخ الانسانى تعطى نظره رياديه للعلوم الطبيعية فى العصر الحديث، قبل quot; أطلنطيس الجديدة quot; لفرنسيس بيكون.
والغريب أنه لم يتناول فى كتابه شخصية توماس مور صاحب quot; يوتوبيا quot; التى أعطت أسمها للمدن الفاضلة فيما بعد، ولكنه أختار quot; كامبانيللا quot; ومدينته الفاضلة كمثال للمدن الفاضة التى أنتشرت بكثرة فى عصر النهضة، ليناقش قضية مهمة جداً وهى: كيف يكون شكل الحكم فى المدينة الفاضلة، ومن يحكم هذه المدينة؟. وهى قضية بدأت مع ldquo;الجمهوريةrdquo; لأفلاطون، ولا تزال مطروحة الى يومنا هذا. من يحكم quot; الملك quot; أم quot; الفيلسوف quot;، أوقل quot; الفيلسوف الملك quot; أو quot; الملك الفيلسوف quot;؟.
يقول عوض: quot; ان أصحاب (مدينة الشمس) وجدوا أن أعلم الناس أقدرهم على الحكم، وهم يرون أن نظامهم أفضل من نظامنا، لأننا نضع فى السلطة الجهال ونرضى بهم لمجرد أنهم من أبناء البيوتات أو من محاسيب القوى السياسية والاقتصادية quot; (3).
كذلك تجده فى اختياره لبعض شخصيات عصر النهضة يستبعد شخصيات مهمة جداً، ومنها من عبر عن الروح الفاوستية لذلك العصر أصدق تعبير من بعض الشخصيات التى أختارها، فهو يكتب عن الثائر الدينى quot; سافونارولا quot; ويستبعد quot; لوثرquot; و quot; كالفن quot;، ويكتب عن quot; جوردانوبرونوquot; ويتجاهل quot; تيليزيوquot; وquot; بومبوناتزى quot;، بل يتغافل عن quot; رابيليه quot; أبرز من عبر عن روح عصر النهضة المتعطشة للمعرفة والحرية فى ملحمته quot; جارجانتوا وبانتاجرويل quot;.
فضلا عن أن لويس عوض أختار ترجمة للفظة النهضة RENAISSANCE quot; (وهى لفظة فرنسية لها أكثر من معنى، وكل معني يعطى مدلولاً مختلفاً أشد الاختلاف، فهى تعنى: quot; quot; البعث quot; و quot; الإحياء quot; و quot; الميلاد الثانى quot; وquot; الميلاد الأول quot;) تكاد ان تكون ترجمته أول ترجمة دقيقة لمعنى النهضة الاوربية لغوياً ودلالياً وهى quot; الميلاد الجديد quot;.
ويشرح ذلك بقوله: quot; الميلاد الجديد quot; غير quot; البعث quot; لأن البعث لا يكون إلا للموتى، ولا نظنه يتم إلا فى الآخرة، أما الميلاد الجديد فهو ملازم لدورة الأجيال وحركة المجتمعات (4).
ولعل ما كتبه عن اللغة فى كتابنا موضوع المقال ما يكشف لنا موقفه منها، فلم يتخير عوض quot; دانتى quot; أو quot; بترارك quot; أو quot; بوكاتشيوquot; ليحدثنا عن quot; الكوميديا الالهية quot; و quot; الابيجريمات quot; وquot; ديكاميرون quot; فحسب، وإنما ليطرح قضية اللغة باعتبارها quot; أم القضايا quot;. فدانتي هو أول من ثار على اللغة اللاتينية فى ايطاليا ووضع أساس التعبير الشعرى فى اللغة العامية الايطالية، والثانى كان أرقى وأصفى من نظم الشعر الغنائى، والثالث هو الذى وثب الوثبه الكبرى وكتب النثر الادبى باللغة العامية.
كان من أبرز مظاهر القومية فى عصر النهضة أستخدام البلدان الاوربية للغاتها القومية والشعبية بدلا من لاتينية القرون الوسطى التى كانت لغة العلم آنذاك. وكان لهذا الاستخدام أثره البالغ إذ أشرك الجماهير فى قراءة نصوص دينها وفهمها ومناقشتها، باللغة التى يفهمونها ويتكلمونها، كما يسر لهم الاطلاع على نصوص القانون والسياسة،بعد أن كانت ndash; حسب تعبير عوض ndash; كالتعاويذ لا يفهمها إلا الصفوة ورجال الدين الذين احتكروا قرابه ألف عام تفسير لغة الكتاب المقدس للملايين من بسطاء المؤمنين. بل ان اشراك الجماهير فى قراءة وفهم الدين كان المقدمة اللازمة لاتساع قاعدة الديموقراطية فى أوربا. يقول عوض: quot; كان هناك ازدواج لغوى: فالناس تقول شيئا وتكتب شيئاً آخر hellip; بما أدى الى شل كل تعبير وجدانى تلقائى، وكل وصف صادق للحياة والطبيعة، وحبس العاطفة والخيال فى اطارات البلاغة التقليدية القديمة، فأجهض كل ابداع أدبى أكثر من ألف عام quot; (5)
ويذكرنا هذا الكلام بما كتبه هشام شرابى فى quot; البنية البطركية quot; عن اللغة العربية الفصحى باعتبارها quot; لغة المقال فى النظام البطركى الحديث quot;.يقول شرابى:quot; من أبرز خصائص هذه اللغة ازدواجيتها: مستوى الكتابة والخطابة، ومستوى الحياة اليومية. ونجد هنا أن الازدواج ليس قائماً بين لغة أدبية وأخرى quot; عامية quot; وحسب، كما هو الشأن فى المجتمعات الطبقية كلها، وإنما هو بالأحرى بين quot; لغتينquot; مختلفتين بينهما ترابط أساسى لكنهما مع ذلك متباينتان كل التباين quot; (6).
بقيت قضية أخيرة عند لويس عوض آثر أن يبرزها فى كتابه وهى quot; النزعة الانسانية quot; التى تميز بها فرسان عصر النهضة الأوربية. ذلك أن عوض نفسه كان انسانياً حتى النخاع، ففى مقدمته لروايته الشهيرة quot; العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح quot; يقول: quot; كنت أربى تلاميذى فى الجامعة على الهيومانيزم أو المذهب الانسانى لا على أساس فردية الرينسانس أو طوباوية توماس مور، ولكن على أساس اشتراكية القرن العشرين، كنت ألهب فيهم الظمأ الى المعرقة و حب الحرية ولا سيما حرية الفكر، وأحطم أمامهم المقدسات المزيفة القائمة على الغيبيات أو وليدة الخوف أو التقليد، وكنت أفجر فيهم ملكة الابتكار hellip; جعلتهم يبغضون الدمامة ويحبون الجمال وخلال تعريفهم بالموسيقى الكلاسيكية فتحت أمامهم فراديس تعانقت فيها عرائس الفكر وعرائس الفن وعرائس الشعر تحت جناحى الحرية العظيمين quot;(7).
هذا الكلام نفسه ينطبق عليه الى حد كبير، فكان متمردا عظيماً على عقلية القرون الوسطى، مازجاً بين الآداب العالمية والأدب العربي، وطبق الشئ نفسه فى نقده الشعر المصرى والمسرح المصرى فى الستينات، لأنه كان يعتبر الأدب العربى أدباً انسانياً يرقى الى مستوى الأعمال الأدبية العالمية. وجر عليه مزجه الدائم وربطه المستمر بين الأدب العربى والآداب العالمية متاعب كثيرة من التقليديين الذين وصفوه بـ quot; صبى المبشرين quot; خصوصا بعد دراسته عن ldquo;المعرىrdquo; فى كتابه على ldquo;هامش الغفرانrdquo; وعن rdquo; ابن خلدونrdquo; فى كتابه ldquo;الاشتراكية والأدبrdquo; بل وكتابه ldquo;أورست والملاحم الشعبية ldquo;.
لقد كان عوض يؤمن بوحدة المعرفة الانسانية، لا بوحدة التجربة الانسانية، وأتخذ من quot; الأدب فى سبيل الحياة quot; شعارا لمقالاته، لإيمانه بالانسان، الانسان الكونى، وقضايا الانسان، ومن ثم يستوى أن يقول quot; الأدب للحياة quot; أو quot; الأدب للإنسانية quot;.
هوامش:
1- لويس عوض:rdquo;ثورة الفكر فى عصر النهضة الاوربيةrdquo;، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1987،ص 73.
2- محمود أمين العالم:rdquo;طه حسين: الحلم والواقع والمستقبلrdquo;، بحث قدم فى الندوة الدولية حول ldquo;طه حسين: مستقبل الثقافة العربية، الانجازات والآفاق الجديدة ldquo;جامعة القاهرة- تشرين الثانى(نوفمبر) 1989.
3- لويس عوض:rdquo;ثورة الفكرrdquo; ص 316.
4- المرجع نفسه: ص 73.
5- المرجع نفسه: ص 28.
6- هشام شرابى:rdquo; البنية البطركية ndash; بحث فى المجتمع العربى المعاصرrdquo; دار الطليعة،بيروت، 1986،ص 80-81.
7- لويس عوض:rdquo; العنقاء أو تاريخ حسن مفتاحrdquo;،دار الطليعة،بيروت، 1966،ص 21-22.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
dressa[email protected]