(1 من 3)


التعريف المجرّد أولا:
كثرت تعاريف الامن القومي، وتباينت بشكل مثير في تعيين عناصره الجوهرية، رغم وجود أكثر من مشترك صميمي بين التعاريف، ويعود سبب هذه المفارقة إلى أن (الامن القومي) كمفهوم يختلف تصوره من دولة لاخرى، ومن مفكر ستراتيجي لآخر، ومن فلسفة أديولجية لاخرى، ومن مفكر سياسي لأخر.
لقد استخدم مصطلح الأمن القومي بشكل رسمي في نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد عام (1947)، عندما أنشأ الامريكيون هيئة (مجلس الامن القومي الأمريكي)، من تلك اللحظة الزمنية المهمة واصل لمصطلح تطوراً هائلا على صعيد عناصره وغاياته وآلياته، وقد تمخّضت من خلال هذا التاريخ المزدحم بالقراءة والبحث والتصورات عن ثلاثة نماذج تعريفية للمصطلح، ففي حين تهيمن قيمة سيادة الدولة وإستقلالها على التعريف في النموذج الاول، نرى النموذج الثاني يشدد على الجانب التنموي في إطاره الإقتصادي، وذلك نظرا لما ينطوي عليه الجانب المذكور من دور حاسم في ذات موضوعة السيادة والاستقلال، فيما يشخص لنا نموذج ثالث، يتسم بشمولية الابعاد، فالأمن القومي هو عملية مركبة، تعبر عن قدرة الدولة على حماية أبناءها واقتصادها وحدودها وسلامها وثقافتها ومجتمعها من الاخطار الداخلية و/ أو الاخطار الخا رجية، بتكثيف كل الممكنات التي بحوزتها.
هذه الكثرة من التعريفات للامن القومي تؤدي إلى الاستنتاج إن تعريف (الأمن القومي) يتسم بالحيوية والديناميكية والحركية، فهو ليس تعريفا ميتافيزقيا، خارج مملكة الزمان والمكان، بل تعريف يكتسب صلاحيته بل يكتسب حضوره وخصائصه من الواقع، ومن الثقافة، ومن الحاجات الملحة.
وفي الحقيقة، مهما كان التعريف، فهو لا يخرج أبدا من دائرة الالتزام، إلتزام الدولة تجاه أبنائها، أي حماية الفرد، ثم حماية المجتمع، ثم حماية الأمة.
يجتهد بعضهم على قصر(الامن القومي) على حماية البلد من الاخطار العسكرية، من الغزو، من الاحتلال، وبالتالي، يركز على القوة العسكرية، ويوظف كل ا لممكنات في خدمة القوة العسكرية، فإن إحتلال البلد، أو خضوعه للغزو ينذر بنهاية الدولة والأمة وكل القيم التي تشكل جوهر الوجود، بما في ذلك السيادة والإستقلال.
يقول كيسنجر:(أن الأمن القومي هو التصرفات التي يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ حقه في البقاء)، وهذا التعريف يتمتع بمرونة هائلة، فهو لم يعين هذه التصرفات، ولم يحدد معنى الحق بالبقاء، ومن هنا، يرى بعضهم أن تعريف كينسجر يهيئ الارضية لفلسفة القوة في بناء وتسيير وتصميم العلاقات الدولية، وإنه تعريف يخدم النزعة العسكرية وا لاستعمارية في العقلية الامريكية، خاصة، إن ا لولايات المتحدة الامريكية، تعتبر العالم كله مجالا حيويا يهم مصالحها.
يعرف روبرت ماكنمارا الامن القومي بقوله: (الأمن عبارة عن التنمية، وبدون التنمية لا يمكن أن يوجد أمن، وإن الدول التي لا تنمو في الواقع لا يمكن أن تبقى آمنة...)، حيث يشير بعض الدارسين إن تجربة الحرب الامريكية الفيتنامية كان لها دور في صياغة مثل هذا التعريف، لان الرجل كان وزيرا للدفاع في وقتها.
يعرف الامير طلال بن الحسن الأمن القومي بقوله: (للامن الوطني مفهومان: أحدهما ضيّق يقتصر على حماية التراب الوطني، وكيان الدولة، ومواردها من الأخطار الخارجية، والثاني أوسع، يمتد من الجبهة الداخلية، وحماية هوية المجتمع وقيمه، ويؤمِّن لمواطن ضد الخوف والفاقة، ويضمن له حداً أ دنى من الرفاهية، والمشاركة السياسية)، وعليه، يكون الأمن القومي با لمعنى الضيق ذا طابع عسكري سياسي، والأوسع ذا هوية إقتصادية سياسية.
يعرف السيد عليوة في كتابه (إدارة الصراعات الدولية) الأمن القومي لدولة بما هو نصه: (ا لأمن القومي هو: التحرر النسبي من التهديدات الضارّة لقيمها الجوهرية مثل الا ستقلال والسيادة وسلامة الاراضي والممتلكات، والارواح، و النمو الإ قتصادي، والإستقرار السياسي، أي غياب الاخطار والمخاوف الشديدة على تلك القيم،وذلك من دون اللجوء إلى الحرب، مع القدرة على المحافظة على هذه القيم إذا تعرّضت هذه القيم إلى التحدي، وذلك في الدخول في حرب وا لانتصار فيها).
من بعض هذه التعريفات يمكننا أن نقول أن تعريف الامن القومي عملية فكرية ديناميكية، وهو يشمل أبعادا أقتصادية وأجتماعية وسياسية وثقافية ودينية، وهي تهدف بصورة رئيسية إلى حماية الوطن والمواطن بالمعنى الواسع، الذي يضمن له الحياة الحرة ا لكريمة، على أن بعض الدارسين يذهبون أن المعنى الاوسع للأمن القومي، أو المعنى الشامل يجب أن يحجب المعنى الضيق، أو المعنى القريب، وهو حماية المواطن.
هنا نلتقي بتعريف فيه شي من الإضافة على ما سبق، إذ تعرف بعض مراكز الدراسات الاستراتيجية الامن القومي بانه: (عملية محلية مركبة، تحدد قدرة الدولة على تنمية إمكاناتها وحماية قدراتها، على كافة المستويات، وفي شتى المستويات، وفي شتى المجالات من الاخطار الداخلية والخارجية، وذلك من خلال كافة الوسائل المتاحة، والسياسات الموضوعة، بهدف تطوير نواحي القوة، وتطويق جوانب ا لضعف، والكيان السياسي الإ جتماعي للدولة، في إطار فلسفة قومية شاملة، تأخذ في إعتبارها كل المتغيرات الداخلية الإجتماعية والدولية)، وهذا التعريف يتصف بالشمولية كما هو و اضح، ويركز التعريف على الإستفادة من نقاط القوة في البلد بتطويرها وتنميتها، وعلى معالجة نقاط الضعف بتطويقها وعدم السماح بتسرّب سلبياتها إلى كيان الدولة والمجتمع. ومهما يكن، يبدو أن التعريف هذا قد وضع في الإعتبار الدولة ككائن كلي، شامل، يحتكر القوة، ويحتكر المسؤولية إلى حد كبير عن الارض والامة والفرد،حاضرا ومستقبلا، وعلى كافة المستويات الحياتية.
يعرف أ حد الاستراتيجيين الامن القومي بأنه: (الاهداف التي تسعى إليها الدولة لتحقيقها من خلال ا لسياسات والبرامجوالعمل على توسيع نفوذها في الخارج، ومحاولة التأثير على سلوك الدول الاخرى أو تغييره).
التعريف يشي، بل يتضمن بشكل واضح رؤية عدائيه، بل رؤية إ ستعمارية تحكمية، فهو وسيلة نفوذ عالمي، تحقيق أهداف (وطنية) شوفينية على حساب الاوطان الاخرى، وربما لهذا ولغيره من الاسباب يحذر الكاتب الرا حل حامد ربيع من التوسع بمعنى أو مفهوم الامن القومي، خشية أ ن يتستر هذا التوسع في التعريف على نية التوسع الا ستعماري، ونية التوسع على حساب الغير، ويصر الكاتب المذكور على حصر مفهوم الامن القومي بالهوية العسكرية، ويلخص الهدف بحماية تراب الوطن، فيما يرى أ ن الامن الاقتصادي وا لامن السياسي والامن الا جتماعي، كلها مفردات للعنوان العريض، الذي هو (الامن)، وا لامن القومي مفردة إلى جانب هذه المفردات وليس المفردة الجامعة لها.
كاتب مصري يتطرق لموضوعة الا من القومي المصري حصرا، فيكتب عن تعريفه للامن القومي بما نصّه: (الامن القومي يعني: حماية القيم الداخلية من التهديد الخارجي، وحفظ كيان الدولة وحقها في البقاء مستندة في ذلك على أسس إقتصادية وحد أدنى من التألف الانثروبولجي، وخلفية حضارية قائمة على بناء هرمي للقيم، تُبرز القيمة العليا السياسية، والتي تستتر خلفها المصلحة القومية للدولة كهدف أعلى يعمل من خلال الاطار النفسي الذي يميز الجماعة،والاطار الاستراتيجي الدولي الذي يميز موضوع الصراع الدولي المعاصر).
إن مفهوم الأمن القومي كما يبدو من بعض هذه العينات ذو صفة مطلقة، ولكن يظهر الخلافات أثناء التطبيق من دولة لأخرى، حيث يكون للظروف أحكامها، وضروراتها، وضغوطها، فتختلف الصيغ والمضامين.
من المطلق إلى الجزئي / العراق:

يستكثر بعضهم الكتابة أو التخطيط لامن قومي عراقي، بإعتبار أن العراق كيان متصدع من الداخل، لا يشكل أمة قومية، أو لم تتوفر فيه صفة المجتمع القومي، في جماعة سياسية ! كما أن العراق نفسه صنيعة الإحتلال البريطاني، فلم يكن هناك عراق بالمعنى الذي نعنيه اليوم قبل سقوط الدولة العثمانية!، كما يضيف هؤلاء إلى ذلك إفتقار العراق إلى إنثروبولجيا متجانسة، يقصدون العراق الحالي، عراق ما بعد سقوط الدولة العثمانية، ويلمحون إلى أن العراق الحقيقي لا يتعدى السهل الرسوبي والجزيرة!
هذه الدعوى تسبّبت في طروحات في غاية الخطورة، فقد لاح في الافق إن هناك عراقاً متعدداً وليس عراقا واحدا، وليس من شك أن كتاب (حنا بطاطو) كان إنجيل هؤلاء الكتاب، فقد أرخ للعراق بلحاظ مقاييس طائفية وأثنية، حتى في سياق حديثه عن الاحزاب العلمانية والوطنية، معتمدا على رصيد هائل من الوثائق البريطانية التي كانت تتحدث بهذه اللغة.
سوف يكون من الزائد عن الحاجة الحديث عن تاريخ العراق الحقيقي، وعن حدوده كما بينها الجغرافيون العرب مثل المؤرخ المسعودي في كتابه تنبيه الاشراف، حيث يقول (العراق أشرف المواضع التي أختارتها ملوك الامم من النماردة، وهم ملوك السريانيين الذين تسميهم العرب النبط، ثم ملوك الفرس الاولى إلى الساسانية، وهم الاكاسرة، وهي تلتقي دجلة و الفرات وما قرب ذلك، وهي من السواد البقعة التي حدها الزابي، فوق سر من رأى مما يلي السن وتكريت وناحية حلوان مما يلي الجبل، وهيت ومما يلي الفرات والشام وواسط من أسفل دجلة والكوفة من سقى الفرات التي بهندف وباردريا وباكسيا وي بالنبطية ترفق من أرض جوخا)، ويضيف ما هو اكثر من ذلك، كما جاء في كتابه المذكور(ص 32 فما فوق).
لا أريد أن اتحدث بهذه اللغة، ولكن نحن بين يدي أمر وا قع اسمه ا لعراق، شئنا أم أبينا، وهذا العراق الذي نتحدث عنه بحدوده الحالية، وهو بلا شك ينطوي على صفة المجتمع القومي، وليس معنى (القومي) هنا بطبيعة الحال الإ نتماء إلى عنصر إثني، بل يعني ذلك مجتمعا يعبر عن وحدة سياسية، موجود على أرض معينة، مسمّاة، معترف بها دوليا وإقليميا، وإن لهذا المجتمع أطار نظامي هو الدولة، تلك هي الدولة العراقية. وإذا كان هؤلاء يرون إن العراق غير صالح لاجتراح أمن قومي بحقه بسبب هذا التنوع العرقي والمذهبي والديني فهذا يجب أ ن ينسحب على الكثير من بلدان وأوطان العالم!
إن ما يمر به العراق اليوم يتطلب وضع نظرية أمن قومي خاصة به، مع الاخذ بنظر الاعتبار بطبيعة الحال التعريف المجرّد، فقد مرّ بنا سابقا بأن التعريف المطلق للامن القومي، يتحدد بعد ذلك بمقاييس زمنية ومكانية، واليوم العراق له وضع الإستتنائي، فهو محتل، يفتقر إلى القوة العسكرية التي تحمي حدوده، تتجاذبه قوى دولية وإقليمية، هناك صراع مذهبي وعرقي في حدود معينة، اقتصاد هش، فساد إداري مثير للدهشة، هجرة معاكسة، دستور معلق أو قلق، صعود صاروخي للقيمة العشيرية، تعليم متدني، تناقض طبقي مخيف، حكومة غير مكتملة...
كل هذه المقتربات تستدعي طرح أمن قومي عراقي حصرا، اي أمن قومي خاص بالعراق، مستفيدا من إمكانات خبرائه في الامن واللغة والاقتصاد والسياسة والعلوم العسكرية والاقتصاد والاجتماع والنفس والتربية...
وهنا أطرح النقطة الحساسة التا لية: ـ
إن الهدف الاول أ و المهمة الاولى لنظرية أمن قومي عراقي اليوم هي حماية العراق من التجزئة وا لتشظي، هذه هي المهمة السابقة على كل مهمة، نسجلها بلحاظ الظروف التي يمر بها العراق، فالعراق كـ (وطن) أولا. لا يعني هذا تقليلا لما يسعى إليه الا من القومي في تعريفه المجرد من حماية المواطن والمجتمع والموارد وإمكانات البلد وخيراته، بل لان العراق بحد ذاته تحت طائلة التهديد، التجزئة، التشظي، هناك الاطار، الاطار مهدد، وبتصدع الاطار ينهار المضمون.
ملاحظة
هذا فصل من كراس حول الامن القومي العراقي قيد الطبع