في رد سابق على مقولة 'إيران فوبيا'، بينت مدى تقدير دور الحضارة الفارسية القديمة، التي تعلم منها العرب كثيرا جدا في ميادين مختلفة: إدارة، وأدبا رقيقا، وعلما، وترجمة؛ وشخصيا كنت، ولا أزال، معجبا بأشعار الخيام، وسعدي الشيرازي، وحافظ، وقد قرأت معظم ما حصلت عليه من ترجمات لأدبهم، فضلا عن أن أصول بعض حكايات ألف ليلة وليلة فارسية، وإن كان معظمها من أصول هندية؛ ومن ينكر الدور الكبير للعديد من كتاب، وعلماء، وشعراء، كتبوا بالعربية، وأغنوا الثقافة، والفكر، العربيين، ومنهم ابن المقفع في 'كليلة ودمنة'، وفلسفة الفارابي، وعشرات آخرين من أصول فارسية كتبوا بالعربية.
إذا كان عادلا تثمين كل هذا العطاء الثر، فلابد، في الوقت نفسه، من تسجيل أن آيات الله يتجاهلون آداب الخيام، ومعظم النتاج القديم، شعرا، وفكرا. هؤلاء لا تهمهم هذه الجوانب من الحضارة الفارسية القديمة، وكل ما ورثوه هي أطماع الإمبراطوريات الفارسية في الخليج، والعراق، لحد الإصرار على تسمية الخليج بالخليج الفارسي؛ نعم الفارسي، وليس الإسلامي مثلا، ليقال إن دافعهم جغرافي، وديني. وها هي المظاهرات تنظم أمام سفارة الإمارات في طهران احتجاجا على عدم التقيد بالتسمية الإيرانية.
لماذا العودة للموضوع الإيراني؟
إنه للتعليق على التقرير الرهيب الذي نشرته الشبكة الأمريكية مكلاتشي، عن دور الجنرال الإيراني سليماني، قائد فيلق القدس، في العراق، وقد دللت على كونه في مقدمة الرجال الأقوياء في العراق. إن كبار المسئولين العراقيين، كما يقول التقرير، خلال لقاء الشبكة بهم في مكاتبهم، لم يكذبوا وقائع الشبكة الإخبارية المذكورة، بل أكدها مسئولون كبار، كنائب رئيس الجمهورية الدكتور عادل مهدي، وعمار الحكيم، مقدمين تفسيرات، وتعليلات، من وجهة نظرهم، حتى يبدو وكأن الدور الإيراني صار قدرا لا مفر منه! أما السفارة الإيرانية في بغداد، فقد رفضت الرد، وكان الصمت أيضا موقف الممثلية الإيرانية في نيويورك.
إن من المبرر وصف دور السليماني في العراق بباشا العراق، على وزن الباشوات العثمانيين.
إن المعلومات الواردة تؤكد حقائق معروفة عن دور إيران، ولكن ما كان خافيا على نطاق عام هو الدور الشخصي للجنرال الإيراني، كمهندس للتدخل الإيراني، المتعدد الجبهات في العراق، وزياراته المتكررة، والقدرة على التسلل حتى للمنطقة الخضراء نفسها؛ وبهذا الشأن، تنقل الشبكة على لسان السيد نائب رئيس الجمهورية قوله، معلقا على دور الجنرال في حل الخلاف حول رئاسة الوزراء:
' إن الأمريكيين شعروا بخيبة أمل ، ولكن ما ما حدث كان حلا للمشكلة في وقتها'، مضيفا عدم رضا الأمريكان ' لأن سليماني كان داخل المنطقة الخضراء'.
لقد سجلنا، وسجل غيرنا، مرارا وقائع عن دور فيلق القدس في العمل لتوسيع النفوذ الإيراني في العراق، وفي المنطقة، ودعمها، سلاحا، وتمويلا، للمليشيات العراقية المسلحة، وجيش المهدي خصوصا، وكذلك دعم حزب الله، وحماس.
إن مما يلفت النظر بوجه خاص من وقائع التقرير كيف تسلل هذا السليماني للمنطقة الخضراء باعتراف كبار زعماء الحكم، ومن سهل اختراقه؟من جانبه يصرح للشبكة زلماي خليل زادة، السفير الأمريكي السابق، بأنه كانت تصل للأمريكان أخبار عن وجود سليماني، ولكنهم لم يستطيعوا في حينه التوثق منها.
التقرير يكشف أيضا عدم رضا الأمريكان عن نتائج الانتخابات الأولى، التي يظهر اليوم دور سليماني فيها كلولب النشاط الإيراني لضمان فوز المقربين، والموالين، وكذلك دوره في إفشال الرغبة الأمريكية في عودة الدكتور أياد علاوي لرئاسة الوزارة، وكانت رئاسته بالنسبة لوجهة النظر الأمريكية هي الخيار الأفضل كما يظهر، كما يعيد التأكيد على ما سبق للأمريكان فضحه حول دور فيلق القدس في تزويد المليشيات بالعبوات الناسفة المتطورة، التي تستخدم لقتل الأمريكان، ولمنع أي استقرار عراقي، وجعل البلد ضعيفا، مخترقا. أما ما كان غير معروف نطاق علني ، فهو الدور الشخصي المباشر لسليماني، و داخل العراق نفسه.
إن المرة الأولى التي أشير فيها رسميا وعلنا لدور إيران في الأحداث الأخيرة في البصرة، كانت تصريحا علنيا لقائد حملة 'صولة الفرسان' في البصرة، الذي أكد أيضا اعتقال إيرانيين متورطين؛ لكن القضية وقفت لدى هذا الحد، ولا نعرف إن كان ذلك التصريح بموافقة الحكومة، أم ارتجالا؟
إن قادة أطراف الحكم يتحملون مسئولية تاريخية لمداراتهم لإيران، من منطلق حسابات، ومصالح، مختلفة، ولصمتهم عن استمرار التخريب الإيراني في العراق، بدلا من فضحه علنا، وتقديم شكوى رسمية لمجلس الأمن بشأنه؛ بل، وعلى العكس، كثيرا ما نسمع ثناء على موقف إيران وكأن ذلك ضريبة لابد من دفعها!!
إن إيران، وسوريا، تقدمان في كل اجتماع لدول الجوار تعهدات بعدم التدخل، فيما يستمر هذا التدخل، وخصوصا تدخل إيران، التي تتدخل أيضا في لبنان، وغزة، وبعض دول الخليج ذات الجاليات الشيعية.
إن بين الشعبين العراقي، والإيراني، روابط، وعلاقات، قديمة، ومتعددة، وإن مصلحة الشعب الإيراني نفسه أن تسود علاقات الود، والتعايش، وحسن الجوار بين البلدين؛ غير أن ما يفعله آيات الله في طهران، وقم، هو العكس تماما. إنهم متشبثون بالأحلام التوسعية، وبمخطط تحويل إيران لدولة نووية تبتز دول المنطقة وشعوبها، متجاهلين باستخفاف معارضة مجلس الأمن، وفي تصريح جديد لخامنئي تحد سافر لمجلس الأمن، والرأي العام الدولي، حين يقول 'إن العقوبات لن تخيف إيران.'
أجل، لقد تمكن نظام ولاية الفقيه من أن يكون اللاعب السياسي الأول في العراق، وأن يمتلك العدد الأكبر من مفاتيح أمنه، ولكن إيران، ورغم صولاتها في المنطقة، سائرة في طريق المغامرة النووية، التي قد تؤدي لدمارها؛ أما القيادات العراقية الحاكمة، فإن المصالح الحقيقية لشعبنا تستدعي منها إعادة النظر في المواقف، والنظر بعيدا للمصلحة العراقية، بدلا من الغرق في تكتيك المجاملات، والمسايرات، والمجارات، والحسابات الحزبية، والفئوية، والشخصية!!