((قالوا حبيبك محموم فقلت لهم أنا الذي كنت في حمائه سببا
قبلته ولهيب الشوق في كبدي فأثرت فيه تلك النار فالتهبا))
ما هو المدى السياسي الذي يجول فيه عراق اليوم؟ وما بين التفسير والتقرير، يضطرب كل شيء ويزحف الأسود على الأبيض والأبيض على الأسود، حتى تتعرض الصورة إلى العتمة، إنه الشامل الذي يطغى على ما دونه من تصورات ومكونات مفردة أم خاصة، وهو التعميم الجاهز الساعي إلى البتر والاجتثاث والاقتلاع والنبذ، من دون أن يدع الفرصة للتفكر بأن ثمة حياة أخرى لها الحق بالحضور والوجود والتفاعل.
يتساءل الناس عن الحل، حل مفرد من دون أن يتجرأوا على التفكير بجملة من حلول! حل يضمن للإنسان آدميته المسلوبة على دكة الرهانات الجاهزة، والتشخيصات الثابتة الراسخة، إنها الحمى التي راحت تعصف بهذا الجسد المسجى، والخراب الذي لا يجد حتى البوم لينعق فيه! ولو عرف الناس أن شبرا من الأرض يكفي للقسمة والتعايش والمحبة، فيما يعز العيش على الناس في الأرض على سعتها حين تسود لغة القتل والنقمة والتدمير
في امتحان الصواب
في الوقت الذي يتعرض فيه المواطن العراقي البسيط إلى التهديد المباشر، لعرضه وماله وحياته، تسود لغة أخرى قوامها الرهان على بقاء العراق سالما، بين متشائم يخشى كل شيء،و متفائل يسعى إلى إغماض عينيه عن الذي يجري على ( هذه الأرض المزار المشتهاة) بحسب توصيف الشاعر كاظم الحجاج، تتسع المسافة وتكبر مساحة الاختلاف في الرؤى والتصورات والتقويم لكم الأحداث التي تعصف بالبلاد. فيما تبقى القراءة والتأويل لهذا الواقع عائمة غائمة تسعى لمن يأخذ بيدها نحو جادة الإمساك بخيط، لعله يقود لمن توفرت فيه النية الطيبة لاستيضاح الحادث العراقي.
في حدة النزوع إلى الانتقام، يضطرب كل شيء ويزحف كل شيء على كل شيء، حتى يكون الواقع وقد آل إلى (حرب الجميع ضد الجميع) كما يقول توماس هوبس. وإذا كان الجميع قد عانى من التهاب الكبد سابقا أم لاحقا، باعتبار أن التغيير إنما جاء ليقرر حالة جديدة، قوامها الحرية والمساواة والمقرطة ونبذ سلطة الاستبداد الشمولية وإقرار حقوق الإنسان في العيش الكريم الخالي من المقحمات والقهر والسيطرة والنزعة البوليسية، فإن اللاحق راح يقوم على تعزيز مسار الإنفلات وطرح البديل القائم على خيار ( حين يزأر الوحش في دواخلنا)، حتى برزت المظاهر المسلحة، تلك التي راحت تفرض على الناس جدران الفصل في الشوارع العامة، وراحت تعمق لا المحاصصة الطائفية والعرقية فقط، إنما تخطتها نحو ترسيم واقع جغرافي قوامه خشية الناس من الاقتراب من مناطق بعينها باعتبار الاختلاف وليس الخلاف في المذهب، وهكذا كتب على العراقي أن ( يمشي شهر ولا يعبر نهر) اجتنابا للحظة الحظ العاثر التي قد توقعه بيد جماعة مسلحة تريد الاقتصاص منه باعتبار اخضاعه لفحص الهوية الطائفية!
البحث عن قواعد جديدة
الوطن والوطنية، هذا مايردده الجميع من دون استثناء، حتى ليتساءل المرء عن كل هذا الهدر الذي يغمر العراق؟ فما دام الجميع وطنيون محبون وعاشقون للسلم المدني، فما بال كل هذه الحرائق التي تعم البلاد، إذن أين مربط الفرس؟ هل يقوم على أهمية التطلع نحو التحليل الاجتماعي. أم على نقد التصورات الشمولية؟ وهل الوقت والمرحلة تسمح بالتفكير بإحياء نموذج عراقي قابل للتعامل مع المعرفة الخاصة، تلك التي تفسح المجال للوعي بالسياقات الواسعة والاختلافات والوعي بالتعددية و إدراك قيمة النسبية في التعامل بين البشر من دون الاستغراق في المطلقات،والتي لا ينجم عنها سوى التضارب المباشر في المصالح والرؤى والاتجاهات.هذا مع أهمية التوقف عند ثنائية الانفتاح والانغلاق، في مسائل تقويم الجماعة الاجتماعية، فمن غير المعقول أن يكون التوقف عند ( خرافة النقاء) والادعاء بالحق المطلق، وإلا فإن العالم سيغدو مجرد ساحة حرب واقتتال دائم، لا يستبان فيه سوى الخراب والتدمير. ومن هذا تتبدى أهمية التفاعل في ترسيم معالم الأنساق والموجهات الاجتماعية، باعتبار التوقف عند ( سلطة الوعي) من دون التوقف الطويل والممل عند مفهوم السلطة التقليدي و الذي لا يخرج عن المعنى السياسي.
في تسييس العالم
الظرف الاستثنائي الذي يمر فيه العراق، جعل من مجمل القوى الاجتماعية، تتجه نحو تسييس كل شيء؛ بدءا من الطائفة ووصلا إلى الطعام والشراب وفرص العمل، وتخطتها إلى الإبقاء على الحياة! إنها السياسة القادمة بكل ثقلها والمتطلعة نحو فرض الرهانات الثابتة والراسخة، من دون التفكر بأحوال التكيف الذي تفرضه الأنساق الثقافية، وعليه فإن الثقافة ذاتها صارت تستمد المجمل من مكوناتها اعتمادا على الموّجه السياسي، ذلك الذي راح يؤسس للهوية الثقافية ويحدد أبعاد الرؤى التاريخية، ويحدد مسار المعنى ويوظب مسارات التداول والممارسات، وبناء على هذا الواقع المليء بالتداخل والاضطراب فإن التمييز لم يعد يستمد مفرداته من معطيات التحليل الواقعي، بقدر ماراح يقوم على التوقف عند تحقيب التاريخ وتزمينه عند،(( أمويين ومماليك وصفويين) ). إنه التأويل المقلوب الذي يجعل من مسار التاريخ يعود دائما إلى الوراء، فيما تتوقف فاعلية القوى الاجتماعية عند التصورات الجاهزة، تلك التي لا ينجم عنها سوى الالتباسات والقناعات الراسخة والتقويمات القبلية. إنه السؤال الماكر الذي يبقى يدور حول الموضوع، بغية التحقق من الأصول الطائفية، والإمساك بخيط التأويل عند غاية بعينها، بقوام لا يخرج عن لذة الصرخة التي أطلقها أرخميدس حين صاح قائلا ( وجدتها، وجدتها).
أمسك العراقيون بالسياسة وأضاعوا فرصة الإمساك بالثقافي والاجتماعي، وهكذا هم اليوم يراهنون على وطن، من دون أن يكون في أيديهم شيئا، وإذا جاءت مفردة العراقيين تأتي هكذا بالمطلق، فإن المقصود بها تحديدا الفاعلون السياسيون، أولئك الذين يقدمون لغة العلاقات ومقومات التبعية والمصالح، على حساب ماهو أصيل وعميق وحقيقي. إنها عقد التشفي والنبذ و الإقصاء والاستبعاد، فيما تقوم الأوطان على الدمج والتفاعل والإحساس الأصيل بالمسؤولية.