-1-
بينما تتبنى الليبرالية العَلْمانية العقيدة التوحيدية، التي لا تنكر وجود الله، وتؤمن بالأديان جميعها، تُنكر الأصولية العَلْمانية إنكاراً تاماً، وترميها بالإلحاد والكفر برب العباد، وتطلق على العَلْمانيين صفة الملاحدة (يوسف القرضاوي، quot;وجهاً لوجه: العلمانية والإسلامquot;) رغم البراهين القائمة أمام الأصولية في العالم كله - الذي أصبح أكثر من 80% منه عَلْمانياً- من أن العَلْمانية لا تعني إنكار الأديان، ولكن إنكار دور رجال الدين السياسي. فالكنيسة لم تختفِ من أوروبا وأمريكا، والمعابد البوذية لم تُهدم في جنوب وشرق آسيا. ورجال الدين ما زالوا يمارسون مهماتهم في الكنائس وعلى شاشات التلفزيون ويكسبون الملايين من ورائها، كما يحدث للدعاة الجدد في العالم العربي. فالمتاجرة بالدين أكثر ربحاً من المتاجرة في المخدرات، وأوفر سلامة. وفي الغرب ازداد التمسك بقيم الأديان الروحية والخلقية. وما تمَّ هو منع رجال الدين من تعاطي السياسة، وفصل الكنيسة والمعبد البوذي عن الدولة. فلم يعد في الدول رجال دين وساسة في آن واحد. فإما أن تكون رجل دين، وإما أن تكون سياسياً. ولكن رجال الدين الأصوليين في العالم العربي يريدون كلا الحُسنيين معاً: الدين والسياسة (مثال ذلك، رجال الدين الشيعة والسُنّة من السياسيين في إيران ومصر والعراق ولبنان والخليج، حيث لا يحاسبون ولا يُعاقَبون. وهم يحتمون كسياسيين بمظلة الدين والمسوح الدينية. فهم سياسيون في المحراب، ورجال دين عند الحساب) وليس أحدهما، ويريدون كلا الدالين معاً: الدين والدنيا.
-2-
تسعى الليبرالية إلى حسم موضوع الحداثة، كما تسعى إلى حسم موضوع quot;الأصالة والمعاصرةquot;. ولنعلم أن هذا الحسم ليس قرار المثقفين أو السياسيين، بقدر ما هو قرار الزمن العربي نفسه، وقرار الحياة العربية نفسها، التي يعيشها الليبراليون على أرض الواقع الطاحن، وليس داخل قلعة أثرية عالية ومعزولة، كما يعيش الأصوليون. ونحن نعني بالزمن هنا، الحدث أو الفعل في التاريخ. فمجيء نابليون إلى الشرق في العام 1798 حسمَ مسألة الحداثة مبدئياً. وكذلك، فإن مجيء محمـد علي باشا والياً على مصر في العام 1805، كان قد حسم جانباً من الحداثة العربية في ذلك الوقت، والتي كانت حداثة بمقاييس القرن التاسع عشر. ونابليون ومحمد علي باشا عندما جاءا بالحداثة، لم يأتيا بها من خلال قرار إمبراطوري، أو مرسـوم أميري، أو فرمان سلطاني عثماني، ولكنهما جاءا بها من خلال مجموعة من الأفعال وحزمة من الإجراءات، ذات صبغة حداثية.
-3-
ولهذا، فالأصوليون يكنّون البغضاء كلها لحملة نابليون علي مصر، ويكرهون كل الكره عهد محمد علي باشا، الذي حرم رجال الدين الكثير من امتيازاتهم، وحدَّ الكثير من تدخلاتهم في شؤون الدولة، وألزمهم مساجدهم، وكنائسهم، ومعابدهم. وهو الذي استولى على أموال الأوقاف وعقاراتها وأراضيها، وجعلها ملكاً للدولة، رغم معارضة رجال الدين الشديدة لهذه الإجراءات، وذلك حرصاً من محمد علي باشا على الحد من سلطة رجال الدين، وقطع الموارد المالية عنهم، والتي كانت تمثل قوة لهم. كما كان اهتمام محمد علي باشا بإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا لإيجاد جيل من الخبراء والعَلْماء مقابل رجال الدين الفقهاء، بمثابة محاولة منه للحد من سلطة رجال الدين على مرافق الدولة، وإيجاد نُخب عليمة ومتعلمة في الغرب لإدارة الدولة التي كانت تدار في السابق بأغلبية رجال الدين كما الحال في إيران الآن. بل هو أرسل عدة بعثات من رجال الدين الأزهريين إلى أوروبا في بعثات علمية، وكان على رأس هؤلاء الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي سبقه إلى أوروبا شيوخ كثيرون قبله. وكانت هذه الإجراءات من علامات العَلْمانية في الدولة العربية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر، في عهد محمد علي باشا، الذي قام بتصفية حركة علماء الدين والقضاء على الأساس الاقتصادي -الاجتماعي لقوة علماء الدين السياسية، وذلك بتجريدهم من التزاماتهم، ومصـادرة ثرواتهم، وتدمير الطوائف الحرفية والتجارية التي كانـوا أرباباً لهـا. وبذلك انتهت مرحلـة في تاريخ مصر كان فيها رجال الدين هم قادة المجتمع، وأكثر فئات المجتمـع ثراءً. وقال رفعت السعيد: quot;استحسن المصريون ما فعله محمد على باشا بهؤلاء العَلْماء، لأن هؤلاء العَلْماء كانوا في وضع اجتماعي واقتصادي متميز، بل ومتناقض مع باقي أفراد المجتمعquot; (التيار الديني والتيار العَلْماني في الفكر المصري الحديث، ص60). ولو امتد الزمان بمحمد علي باشا وساعده الحظ، لحوّل العالم العربي إلى دولة عَلْمانية على غرار أوروبا الآن. ومن المعروف أن محمد علي باشا، كان أول زعيم في العالم العربي يحارب السلفية وجهاً لوجه، وذلك من خلال حملاته العسكرية المتكررة (1811-1818) على الجزيرة العربية، وعلى نجد خاصة، والدولة السعودية الأولى (1744 -1818) لأغراض سياسية، وليس لأغراض دينية - بقيادة ابنه الأمير طوسون، ثم ابنه إبراهيم باشا.
السلام عليكم.