نشر الحقوقي السوري في ابريل 2008م (هيثم المالح) ورئيس هيئة حقوق الإنسان حالة اليأس والإحباط التي يعاني منها، وأنه لا سبيل إلى الحوار على الرغم من كل محاولات الحوار مع السلطة وأذرعتها وأجهزة أمنها التي لا تعد، ليضع مقالة بعنوان بين فكي كماشة، ويخلص بآية معبرة فهل إلى خروج من سبيل؟
وكلامه هذا يذكرني بكلام سمعته من المخضرم (رياض الترك) حين زارنا في كندا، وكنت ممن يستمع بدقة إلى كلماته، وكان ذلك في الأول من أكتوبر 2003م حين ناقش في أقصى الأرض، معضلة الاستبداد في أدنى الأرض؛ فبعد أن أطبق الخرس على الشرق المنكود، لم يكن بد لعشاق الحرية أن يمخروا عباب المحيطات، للفرار بجلودهم إلى أرض الأمل، خلف بحر الظلمات وأعمدة هرقل.
كان رياض الترك يتكلم في مدينة مونتريال الكندية، في صالة القناطر، إلى جالية عربية، فرت من سفينة العروبة الغارقة بأطواق نجاة فردية، إلى شاطئ الحرية والديمقراطية، بعد أن غرق من غرق في لجج المحيط البارد، فأصبح طعاماً لسمك القرش الرأسمالي.
واجتمع في هذا اللقاء طيف من الجنس والأديان واللغات واللهجات والأحزاب، تجمعهم لغة واحدة هي مصيبة سوريا، وكيفية التخلص من كارثة الاستبداد، ويحدوهم سؤال واحد أين الخروج من نفق الظلمات الذي تطاول ولا نهاية له؟
واختصر رياض الترك وجهة نظره في ثلاث نقاط فهو يرى أولا أن هناك حالة استعصاء في الحالة العربية؛ فالنظام الشمولي الذي اشرف على بنائه مجرمون محترفون 'نظام من أصله غير قابل للإصلاح'؟!.
ورياض الترك يرى ثانياً، أن ما يحكم النظام الشمولي 'توازن الضعف' فتفشل الحكومة عن أي إنجاز، وتفشل المعارضة عن أي تغيير.
الحكومة ضعيفة متآكلة تعصف بها أزمة عميقة، والمعارضة مفككة الأوصال، تتبادل الريب والتوجس، وتعاني من أزمة داخلية مستحكمة، والشعب ينتظر الخلاص بالدعاء واللعنات.
مثل من يريد إطفاء حريق هائل، بالاعتماد على سحابة صيف عابرة.
ورياض الترك يرى ثالثا أن النظام الشمولي ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب؛ فهو يلعن أمريكا جهرا بقدر ما يتعاون معها سرا.
والمهم أن تبقى العصابة في الحكم بأي ثمن ولأطول فترة.
وقصة ماهر عرار الدليل الدامغ، فهو كندي من أصل سوري، تم تسليمه عبر البوابة الأردنية الخلفية، إلى الثوريين في دمشق، ليعذب بيد المخابرات البعثية، بعد أن أمسكت به المخابرات الأمريكية بتهمة باطلة، فوكلت أمر تعذيبه إلى الرفاق في دمشق..
وهو أمر محزن إلا أنه حدث مع كل الهول الذي لايصدق.. واختتمت رحلة عذابه بعد تدخل الكنديين فأنقذوه من أيدي أهله السوريين بعد نصب وعذاب فضرب برجله في كندا هذا مغتسل بارد وشراب..
ورياض الترك واقعي وذكي، ومليء بالتجربة، حنكته الأيام والسجون، فقد قبع في الإفرادية سبع عشرة سنة، بدون أن يناله مس من الجنون، في الوقت الذي كان واعظ السلطة، يقسم على الله أن ابن الطاغية في حواصل طير خضر، يطير في الجنة بجناحين من عقيق أخضر؟
ورياض الترك ترك الشيوعية الستالينية مع (المعلم) بكداش، ولم يعد يأبه بالاشتراكية، ويعتبر أن (أم المعارك) في الشرق المنكوب، هي معضلة (الاستبداد).
ولكنها مشكلة تشبه من وجه، حالة المريض المصاب باليرقان، في قرية اجتمع عليه الفلاحون الجاهلون، وقرروا أن سبب الإصابة فزع ألمّ به، وحتى يزول المرض؛ فلا بد من إدخال فزع أعظم عليه.
وبدأ الفلاحون في محاولة تخيل أكبر أكذوبة، تدخل أكبر جرعة خوف إلى قلبه. وهي قصة أعرفها جيدا من القامشلي حيث نشأت..
وفي يوم كتب الكواكبي قبل قرن كتاباً كاملاً عن (طبائع الاستبداد)، وهو موجود في كل المكتبات العربية، بدون أن يستفيد منه أحد بشيء، كمثل الحمار يحمل أسفارا، بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله.
كما أنه هذا يذكر بكتاب (العبودية المختارة) الذي كتبه الشاب الفرنسي (أتيين لا بواسييه) عام 1562 م، وترجم بعد أربع قرون ونصف إلى اللغة العربية، وقمت بالتعاون مع أخوة أفاضل في إنزاله إلى اللغة العربية بعنوان (فقد المناعة ضد الاستبداد ndash; نشر دار نجيب الريس).
وهذا الفيلسوف قام بتشريح مذهل لآلة الطغيان وكيف تعمل، وأن الطاغية لا يعمل منفردا، بل تتعاون معه عصابة قليلة العدد، تتقاسم معه الأرباح والجريمة، فيقتل الرفاق بيد الرفاق.
وأن هذه العصابة لا تتجاوز في العادة العشرة، تعمل بينها بتنسيق ونظام داخلي فيما يشبه المجلس المليّ السري.
وأن كل فرد منهم مرتبط بعشرة.
وكل بدوره يتمفصل مع عدد أكبر، بحيث تتشكل في النهاية آلة جهنمية، بمفاصل لا حصر لها، متصلة ببعض مثل الشبكة العصبية في الجسم، تتحرك بإرادة العصابة من فوق، كما يفعل الدماغ مع الشبكة العصبية في الجسم. تتقلص وتنبسط، وفق إرادة الجبار والرهط الإجرامي معه.
وفي القرآن قصة تصف هذا الوضع عن الرهط في المدينة:
'وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون'
وأنه تقاسموا بالله على قتل (نبي الله)، وأنه سيقسمون لأهل النبي بعد قتله أننا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون'.
ورياض الترك دعا إلى التغيير الديموقراطي، فوقع في تناقض من حيث لا يشعر، بعد أن قال أن النظام الشمولي نظام غير قابل للإصلاح.
وكان مثله مثل القديس الذي يخاطب مجموعة من اللصوص أن يتحولوا إلى بررة وقديسين، كما في مجيء درة المتقين وشمس الواعظين إلى الحكم بعد بورقيبة بعد تعفن وخرف..
ومشكلة النظام الشمولي أنه يشبه البالونة المنتفخة، إذا انثقب في أي مكان انكمشت عن شكلها، وتحولت إلى قطعة تافهة من المطاط.
أو يشبه في علم النفس مرض السادي ndash; المازوخي؛ فيخرج إنسان مشوه البنية النفسية، مثل تشوه المفاصل بطول الكساح، كما نقل عن عدي الذي نفق في معركة الموصل، فأقيم العزاء في بلد عربي في ذكرى استشهاد السبطين السعيدين، سيدي شباب أهل الجنة عدي وقصي؟
وفي يوم قفز جندي بين حدود بلدين ثوريين هما العراق وسوريا، من نفس الحزب، لرؤية قريب له فكانت قفزته إلى النار؛ فبعد أن سلمه والده إلى المخابرات، على أنه شاب طائش، ترتب على الأمر أن اختفى الولد ثلاث سنوات، ليخرج شيخا طاعنا في السن محطما، قد تحول جلده إلى لون جلد السنجاب، من شدة لسع الكهرباء، وإطفاء السجائر فيه.
وعندما خرج كان أقرب إلى حافة الجنون، صامت لا ينطق بحرف مما جرى معه، وفي النهاية لم يعد يطيق الحياة، أو يجد لها معنى؛ فقام بمباشرة طقوس الموت الجنائزية، وخلع نعليه، وألقى بنفسه في بئر عميقة (ارتوازية) لم يستطع والده أن يخرجه منه، إلا بحفر بئر موازية لمدة ثماني ساعات، وهو ينتحب ويبكي طوال الوقت.
فهذه هي من بركات الأنظمة الثورية الشمولية.