لعل أول مسألة ناقشها القرآن في أول سورة نزلت كانت الطغيان quot;كلا إن الإنسان ليطغىquot;، ولب التوحيد مسألة سياسية وليست تيولوجية، بأن لا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا.
ولكن بقدر القباب والمآذن في العالم الإسلامي، بقدر أصنام السياسة، وآلهة البشر المرفوعة، فقد عادت الأوثان إلى بلاد العربان. كما أنشد محمد إقبال: تبدل في كل حال مناة شاب بنو الدهر وهي فتاة.
وعندما تنقلب محاور الفهم، يتحول الدين من طاقة تحريرية إلى طاقة تدميرية، تخدم الاستبداد، فيتعانق الطاغوت السياسي مع الجبت الديني.
quot;ألم تر إلى الذين يؤمنون بالجبت والطاغوت؟
الجبت الديني الذي يغتال العقول بالوهم، والطاغوت السياسي الذي يصادر الحريات بقوة السلاح والجاندرما..
وهو الذي أطلقه فولتير في أهم شعار لهquot; اشنقوا آخر قسيس بأمعاء آخر إقطاعيquot;
وفي محاضرة المفكر رياض الترك التي ألقاها يوما في موناريا الكندية تبارى المتحدثون بين غاضب وحزين وناقم ويائس ومتفاءل بالقانون الأخلاقي، كما فعل هيثم المالح المحامي السوري ورئيس هيئة حقوق الإنسان، الذي يئس من الأوضاع بعد أن قام بمحاولة الحوار مع السلطة بكل سبيل، فلم ينفتح سبيل ليختم تشاؤمه بمقولة: بين فكي كماشة فهل إلى خروج من سبيل؟
ولكن قانون التاريخ يمشي بقوته الذاتية ولا يأبه لكل ما نقول.
والأمم لا تتعلم بالكلمات بل باللكمات والنار؟
وفي آذربيجان ترنح العجوز عالييف، ليخلفه من ذريته طاغية جديد.
وفي تركمنستان غيّر المجرم أسماء الأشهر إلى اسم والدته الخاتون.
وفي سوريا مثل كوريا، بتغيير حرف واحد، خلف كيم الصغير المحبوب، كيم الكبير المهيب المخيف، الذي يعلو تمثاله سبعين ذراعا فاسلكوه..
وفي مصر أعلن عن رفع الأحكام العرفية بدون رفعها، كما جاء في قصة جحا والمسمار، فيمكن استخدامها في الحاجة إلى الأمن.
وعندما باع جحا منزله إلا مسمارا واحدا في الحائط، كان المبرر لاختراق حرمة البيت كل وقت، للتأكد من مسمار لا يضر ولا ينفع.
وهو الذي حصل مع مصرع الفيومي العائد من الاختصاص، فقد جلس الأمن لتقبل العزاء وأخفيت الجثة.
وفي بلد ثوري مثل سوريا جلس الناس الأشهر الطويلة في أقبية المخابرات من أجل ثرثرة الانترنيت، فقد حكم شاب بسنتين ونصف قضاهما إلى آخر ليلة من أجل مقالتين ونصف أرسلهما إلى شخصين ونصف..
إنه عالم الجنون بغير أقفاص وأسوار وأطباء ومصحات عقلية.
وحاول الكواكبي قبل قرن أن يضع ثلاث معادلات للخلاص من الاستبداد:
ـ أن الأمة التي لا تشعر بالحرية لا تستحقها.
ـ وأن التغيير يتم بالتدريج واللين.
ـ وأنه ليس المهم استبدال الحاكم بل فرملته. وأنه ما لم يكن البديل جاهزا فلا معنى للتبديل، فننتقل من الديكتاتورية إلى الفوضى كما يحصل في العراق حالياً. أو إلى نظام طالبان والمحاكم الإسلامية في الصومال، لأن سقوط نظام يعقبه فراغ؛ فإما كان البديل جاهزا، أو تشكل بعد طول عناء. فبعد أن طار زياد البربري وصدام المصدوم خرج من رمادهما ألف بربري وصادم..
والتخلص من الاستبداد هو نصف المشكلة، والأهم البديل.
وعندما طلب قوم موسى أن يرتاحوا من فرعون، خاف أن يخلف فرعونا فرعون جديد:
قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون؟quot;
ومشكلة الطغيان هي ليست بقتله، لأن من أخذ السيف بالسيف يهلك. ومن أزال القوة بالقوة استبدل فرعون بهامان وصدام بمصدوم.
وفي محاضرة الترك قام شاب فقال: أنا لا أومن بدين، ولكن لا مانع عندي من تولي الإسلاميين الحكم، فقط من أجل التغيير، فقد مللنا وجه أبي الهول الميت الذي لا يتغير؟
ولكنه مرض خطير فقد يستبدل السل بالإيدز، والصداع بالمغص، كما يقول الكواكبي.
والقرآن أرشدنا إلى أن التخلص من الطاغية ليست بقتله بل بعدم طاعته. ولكننا ندخل مشكلة جديدة كما صورها كتاب (جدار بين ظلمتين) للزوجين العراقيين (رفعة الجادرجي) و(بلقيس شرارة)؛ فالرجل اعتقل بكلمة، وأطلق بنصف كلمة من فم طاغية دجلة.
لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
والرجل لم يكن مغضوبا عليه، بل كان من نخبة المجتمع والمهندسين اللامعين؛ فأصبح مصيره في السجن يفترسه القمل الأبيض والأسود، مما دفعه أن يخلع ملابسه، ويلتحف ببطانية قذرة، ولما اهترأ سرواله من الخلف لم يبق ما يحمي عورته من الإمام إلا خرقة بالية.
وكما لاحظت بلقيس زوجته أن الطغيان أشبه بالوباء فيقتل الأمة قتلا.
والقتل سهل والموتى يبعثهم الله.
وإذا أصاب هذا الوباء أمة حولها إلى قطيع من البؤساء اليائسين الخائفين المتملقين.
وهذا المرض ليس عربيا، بل هو إنساني ويروي (هانس آبل) السياسي الألماني المخضرم، عن هامبورج في الحرب العالمية الثانية، أن الحلفاء أرادوا أن يجعلوا منها عظة للنازيين بعبارة (همبرة)، فقتلوا في أسبوع بالقصف الجوي ثلاثين ألفا، وهدمت منازل أكثر من 800 ألف من السكان. وعندما حضر مارشال الجو غورنج لتفقد المدينة، لم يزد أن حياه الناس بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم؟؟ وصفقوا له؟؟ فالرعب أخرس الأفواه وعقل ألسنة الجميع.
ويبدو أن هذا هو قانون التاريخ، والطغيان مثل العصور الجيولوجية، وعندما مات برجينيف لم يصدق الناس، وعندما انفلت تابوته وهو يدلى إلى حفرته وقع فتحطم فلم يبالوا.
وما حدث للاتحاد السوفيتي الذي وضع في براد الموتى، حصل نظيره للأنظمة الثورية العربية التي ماتت اليوم، وشيعت جنازة البعث إلى مثواها الأخير. والبقاء لله العلي القدير.
والديكتاتورية تشبه من وجه الشجرة يسهل اقتلاعها في أول نموها، ويستحيل ذلك في أوج قوتها، ثم تدخل دورة الحياة التفسخ الداخلي؛ فتشيخ وتهرم ويسلمها الموت إلى التراب، بعد أن تجف فتسقط بضربة صغيرة، كما في دابة الأرض التي أكلت منسأة سليمان فخر إلى الأرض.
ونحن في العالم العربي نعيش حاليا مرحلة انتقال الأنظمة الشمولية إلى خريف العمر، ولا يعني التخلص منها أن شمس الديموقراطية سوف تشرق علينا، بل الأرجح أننا سندخل مرحلة الفوضى كما هو الحال في الصومال والعراق وأفغانستان، بسبب أن وجودنا مركب خطأ فوق خطأ.
ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها.
وقد يطول هذا قرن من الزمان أو أكثر، تنمو خلالها أنظمة راديكالية أصولية، تمتاز بالعنف دون القدرة على إنشاء نموذج حضاري؛ فالأمر جد وليس بالهزل.
وعندما تصاب الأمة بالإحباط والفشل، تميل إلى التشدد من اجل وضع قدمها على أي مربع ثابت في عالم الدوار والاهتزاز.
وأثناءها سوف تدمر إسرائيل بعد أن انتقل الصراع من خارجها إلى داخلها كما في التهاب الجلد إلى مغص كلوي أو قولنج مراري.
وهذا يعني بكلمة ثانية أننا أمام ثلاث فصول:
ـ من انتهاء الديكتاتوريات المتفسخة حاليا.
ـ وسطوع نجم أنظمة شمولية متشددة للخارج عاجزة في الداخل.
ومعه ستدمر إسرائيل تدميرا.
ثم ندخل عصر الظلمات الخاص بنا.
ومن رحم الظلمات قد... قد يولد فكر تنويري جديد.
وسبحان من يخرج الحي من الميت ذلكم الله فأنى تؤفكون.