من مفكرة سفير عربي في اليابان
حاولت اليابان وعبر عصور التاريخ خلق تناغم جميل بين مؤسسة الشنتو الروحية والديوان الإمبراطوري والمجتمع المدني، وعملت بربط ذلك التناغم بشكل روحاني ووجداني ومادي متوازن مع الثقافة اليابانية. وقد أدى ذلك للاستقرار النفسي للشخصية اليابانية، والتوازن المجتمعي في هذه الإمبراطورية التاريخية، بالرغم من ما عانته من إرهاصات سياسية. وقد كان للبلاط الإمبراطوري دورا هاما في خلق هذا التناغم، واستفاد من انتقال البوذية والحضارة الصينية لليابان في القرن السادس لتطوير الديوان الإمبراطوري وترسيخ قيادته في العقلية اليابانية بشكل ذكي بارع. وعمل الديوان الإمبراطوري على إصدار مؤلفات تاريخية تجمع بين الأساطير الروحية القديمة والتاريخ الياباني لتعزيز العلاقة بين القيادة والعقيدة والوطن، وأعتمد لتحقيق ذلك على مؤرخين ذوي مواهب خارقة في تذكر الإحداث ومراجعة الوثائق التاريخية الموجودة في البلاط الإمبراطوري، ومشهورين بدقة الكتابة للوقائع وبجمال السرد الخيالي للأساطير. وقد أشتهر بين هذه المؤلفات كتابين هامين، صدر أحدهما في القرن السابع الميلادي وعرف بالكوجوكي، وصدر الآخر في القرن الثامن وسمي بالنهون شوكي.
ولكتابي الكوجوكي والنهون شوكي احترام روحاني خاص بين الشعب الياباني، لمحاولتهما خلق تناغم جميل بين عقيدة الشنتو والعائلة الإمبراطورية والشعب الياباني. ويصف هذين الكتابين بسرد أسطوري وتاريخي لبدءا نشأة اليابان قبل ألفين وستمائة عام وحتى القرن السابع الميلادي. ويسترسل الفصل الأول في وصف أسطورة بداء تاريخ اليابان بجلوس آلهة الكامي، ازنامي وازناجي، على كرسي العرش السماوي وتحريك عصاة مرصعة بالمجوهرات في المحيط ليترسب ملح البحر وتتشكل جزر اليابان. ويؤدي تزاوجهما لولادة ابنتهما إلهة الشمس، اماتراسو، المسئولة عن حماية جزر الشمس المشرقة. ويترافق هذا التزاوج بسلالة كبيرة من آلهة الكامي لتصل لأكثر من ثمانية مليون، ولتشمل مختلف أنواع آلهة الجبال والغابات والأنهار والمحيطات والإجرام السماوية والحيوانات والأجزاء المختلفة من جسم الإنسان وسوائله. وتوصف الأسطورة اليابانية في هذين المؤلفين كيفية تحول بعض آلهة الكامي لسلالة العائلة الإمبراطورية وشعب اليابان الخالد، لتتأصل في العقلية اليابانية قدسية العائلة الإمبراطورية واحترام شعبها الخلاق.
وارتبطت حياة الشعب الياباني منذ القدم باحترام الطبيعة والمحافظة على مواردها وتجنب البذخ في استهلاكها. فيلاحظ الزائر انتشار الصخور الطبيعية الجميلة بين حدائقها وغاباتها الواسعة، والتي تعتقد الأساطير اليابانية بأنها مسكونة بمخلوقات روحية ذات قوة خارقة تسمى بآلهة الكامي. وقد بنيت معابد خشبية جميلة لتقوم آلهة الكامي بزيارتها. وتبنى هذه المعابد في وسط الغابة أو على ضفاف نهر جميل أو شاطئ بحر ذهبي، وتصمم بشكل هندسي تقليدي، وبها صومعة توضع في وسطها مرآة معدنية يعتقد بأنها تعكس أرواح آلهة الكامي عند زيارتها للمعبد. ويقوم الشعب الياباني بزيارة هذه المعابد للتبرك والدعاء وبالأخص في مناسبات الماتسوري المترافقة باحتفالات روحية للرهبان ومهرجانات محلية للمواطنين. وتقدس عقيدة الشنتو اليابانية العمل وتدعو لإتقانه، وتربط العلوم الروحية بالعلوم المادية والتكنولوجية، وتدعو للاستفادة من التكنولوجية لمساعدة الإنسان وإسعاده. وقد أدى ذلك لتقدم التكنولوجية اليابانية وكفاءة أداها بتجنب البذخ في استهلاكها للطاقة، بالإضافة للعمل لتنويع مصادرها النظيفة. فمثلا تصرف الولايات المتحدة ثلاث أضعاف ما تستهلكه اليابان من الطاقة لإنتاج نفس الوحدة الإنتاجية، كما أن قوانين التكنولوجية اليابانية صارمة في استهلاك الطاقة. والجدير بالذكر بأن عقيدة الشنتو قليلة الاهتمام بالعبادات وكثيرة الاحترام لسلوك التعامل الإنساني في العمل المتقن والإنتاجية والتعامل مع الطبيعة.
وتعتبر مدينة ايسه المكة الروحية لليابان، وتحتوي على عدد كبير من المعابد ومن أهمها معبد آلهة الشمس اماتيراسو والمسماة بمعبد الجنجو، والتي تعتبر كعبة لعقيدة الشنتو اليابانية. ويقوم كل مواطن ياباني بالحج لهذا المعبد في مناسبات الماتسوي مرة واحدة على الأقل في حياته، ليصل عدد حجيجها لأكثر من الستة ملايين سنويا. ويتكون المعبد الكبير من قسمين الأول يسمى بالكونتاجنجو وهو معبد إلهة الشمس والآخر يسمى تويوكيداي جنجو وهو معبد إلهة الطعام التي تقدم الطعام لإلهة الشمس. ويحتوي المعبد على أربعة عشر معبدا إضافيا ومائة وتسعة معابد صغيرة والتي توجد بها المنشئات اللازمة لتهيئة وطبخ الوجبات لإلهة الشمس، حيث توضع هذه الوجبات في المعبد لساعات قليلة قبل توزيعها على الرهبان للتبرك بأكلها. وقد بقى معبد إلهة الشمس ضمن القصر الإمبراطوري طوال قرون عديدة قبل أن تنقل مرآته العاكسة لموقعه الحالي في عصر الإمبراطورة صونين في القرن الأول قبل الميلاد.
ويبدءا مدخل معبد الجنجو ببوابة خشبية لجسر جميل على نهر الأسوزو، ليتوجه الحجاج إلى ضفافه لغسل اليدين وملمضة الفم للتطهر. ويلبس الحجاج القباب الخشبي لزيارة المعبد، ويحرم عليهم زيارة الصومعة الرئيسية التي تحتوي المرآة المعدنية الدائرية العاكسة، بل يلتزمون بالبقاء خارج الجدار الثاني لصومعة المعبد للمحافظة على قدسية المعبد وطهارته. ويوجد بقرب المعبد مساحة أرض مساوية لأرض المعبد، ويقوم بنائي المعبد بتناوب هدم وبناء المعبد كل عشرين عاما بين قطعتي الأرض، للمحافظة على حرفية البناء التقليدية. ويوجد بالمعبد مائة راهب يرأسهم الراهب سيشو ويساعده فريق من الرهبان. ويوجد بجانب المعبد قاعة للموسيقى والرقص مسئولة عن ترفيه إلهة الشمس والوقاية من غضبها المترافق بقلة الأمطار والجفاف ونقص المحصول الزراعي. ويقوم الرهبان بغناء تقليدي هادئ، وعزف إيقاعات موسيقية لأصوات طبيعة تشبه خرير الماء وحركة أغصان الأشجار وأصوات الرياح وغناء الطيور، مع الرقص بحركات متناسقة بطيئة. ويحضر الرهبان ثلاثة وجبات يوميا لإلهة الشمس وبوسائل طبخ طبيعية. فمثلا يشعل نار الطبخ باحتكاك قطعتين خشبيتين يلف الراهب قطعة دائرية خشبية صلبة على قطعة خشبية لينة ليؤدي الاحتكاك لإشعال النار. كما يهيئ ماء الآهة من بئر خاص بالمعبد. ويتم نقل الطعام في احتفال مقدس من المطبخ إلى قاعة المعبد. فيلبس الرهبان قطعة قماش بيضاءه اللون ويغطى الرأس بقلنسوة سوداء وينتعلون قباب خشبي، وينقل الطعام في صندوق خشبي يحمله راهبين احدهما في الإمام والآخر في الخلف، ويتقدمهما رئيس الرهبان. ويقوم الرهبان بزراعة الرز والخضروات والفواكه ضمن غابة المعبد ويروى بالماء المقدس. وهناك متحف زراعي بقرب المتحف يحتوي على معروضات متنوعة من الأطعمة المقدمة من العائلة الإمبراطورية، وبجانبه متحف فني يحتوي على لوحات قيمة مقدمة من فناني اليابان على مر العصور.
تلاحظ عزيزي القارئ كيف استطاعت اليابان خلق ثقافة يابانية متناغمة بجمع العقيدة والقيادة والمواطنة، لينعم المواطن بالطمأنينة النفسية والأمن المجتمعي. وقد عانت مجتمعاتنا العربية المعاصرة الكثير من الصراعات بين مؤسساتها المجتمعية والروحية والقيادية، لتؤدي هذه الصراعات لتخلف التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وضعف الإبداع والإنتاجية، ونمو التطرف الفكري وإرهاب العنف. والسؤال لعزيزي القارئ هل حان الوقت لخلق ثقافة عربية لتناغم مفاهيم العقيدة والقيادة والمواطنة، لتنعم مجتمعاتنا بالطمأنينة والاستقرار، وتتفرغ لتنميتها الاجتماعية والاقتصادية لكي تشارك في بناء حضارة الألفية الثالثة؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان