[ 1 ndash; 2 ]
لاحظت صحيفة الهيرالد تريبيون، عن حق، بأن الخزانة الفرنسية عامرة بالمناسبات والعطل التي ترافقها، وإن العديد من الساحات، والشوارع مسماة بتاريخ مناسبة معينة منها.
الفرنسيون يعملون أقل من الشعوب الغربية الأخرى، ويقدسون العطل، كما أنهم بين أكثر الشعوب الأوروبية تذمرا وشكوى!
كان شهر أيار ndash; مايو ndash; الحالي مزدحما بأحداث دولية، وعربية كبيرة، كالزلزال في الصين، وكارثة بورما، مع استمرار رفض النظام للمعونات الدولية فيما يوصف بالجرائم ضد الإنسانية؛ وعندنا في المنطقة، كان الحدث الأكبر انقلاب حزب الله بالقوة على الشرعية اللبنانية تنفيذا للخطط الإيرانية، والسورية، وها هو يسجل أكثر النقاط لصالحه بسبب رخاوة الموقف الدولي، والتخاذل العربيK والموقف الغريب من الجيش اللبناني.سوريا نطلب انسحاب السنيورة، وحزب الله مرشح للفوز في الانتخابات المقررة!
أما في فرنسا، ولما نزل قبل نهايته، فإن الشهر الحالي شهد، ويشهد، أحداثا ساخنة، ومناسبات كثيرة، كعيد أول أيار، ويوم الاستسلام الهتلري، والهدنة في أوروبا، بعد حرب كلفت البشرية 56 مليونا من الأرواح، وفي نفس الشهر، انفجار سلسلة من الإضرابات، والمظاهرات. تقترن بكل هذه المناسبات الذكرى الأربعون لانتفاضة الطلبة لعام 1968.
بين هذا كله، تحل أيضا الذكرى الأولى لولاية سركوزي، والضجة السياسية الفائرة بهذه المناسبة، ما بين حكم اليسار على سياسة الحكومة بالفشل، وعلى سركوزي بالارتجال، وانعدام الرؤية، وبين التقييم الإيجابي الذي ترافقه ملاحظات نقدية؛ وكنا في مقالاتنا quot;مطاردة سركوزيquot;، وquot;نظرة في نتائج الانتخابات البلدية الفرنسيةquot;، قد أبدينا رأينا في أسباب الهبوط الكبير لشعبية سركوزي، بينما لا تزال الأكثرية تؤيد برنامجه الإصلاحي؛ أي دعم الإصلاحات، والتشدد الصارم مع مطلقها!
لقد لخصنا في تلك المقالات ملاحظاتنا، وسنحاول هنا استعراض الآراء والمواقف الفرنسية الدائرة بمناسبة يوم العام الأول من الولاية السركوزية، وليس لنا جديد كثير نقوله من جانبنا، ولكن سنستعرض آراء الآخرين، كما نتناول باختصار السجال حول انتفاضة 1968، التي اعتبرها سركوزي قبل عام بكونها خلفت إرثا من العقليات، والتقاليد، والممارسات، التي تتحمل مسئولية كبرى، في نظره، عن الجمود القائم، والمشاكل الكبرى.
أ- حركات احتجاج:
اندلعت هذا الشهر إضرابات، ومظاهرات الطلبة، والمدرسين، وسيندلع إضراب النقل يوم 22 منه.
إن من الضروري التوقف عند هذه الأحداث المستمرة، قبل أن ننتقل مرة أخرى لتقييم السركوزية في عامها الأول على ضوء السجال المندلع اليوم، وكذلك ضوء على انتفاضة 1968، والتقييم المتناقض لها.
الطلبة، والمدرسون، يضربون، ويتظاهرون، ضد خطة الحكومة لترشيق الجهاز الإداري المتضخم بالاستغناء عن عدد كبير من الوظائف عن طريق تعيين موظف واحد بدل موظفين اثنين يتقاعدان، إذ سوف تغلق 22 ألف وظيفة هذه السنة، بنها 11 ألف في التعليم، وفي العام القادم سيبلغ عدد كل الوظائف المغلقة، في مختلف القطاعات العامة، 35 ألف وظيفة.
إن هذا الإضراب أثار، في الوقت نفسه وبسببه، قضية وجوب ضمان الحد الأدنى من الخدمات في الابتدائية ورياض الأطفال. إن منظمات المعلمين، وكل اليسار، يعارضون هذا الإجراء، وإن البلديات التي يقودها الاشتراكيون لم تطبق خدمات الحد الأدنى يوم الإضراب وفقا لقرارها بعدم تقديم خدمات الحد الأدنى في التعليم، وهذا هو نقيض واجبات البلديات. الحكومة مصرة على خدمات الحد الأدنى وأمام مقاومة نقابات الموظفين، فسوف تشرّع ذلك كقانون ملزم. أما عمال النقل العام فسوف يعودون للحركة الإضرابية، التي تشل عادة الحياة اليومية للمواطنين، وتجعلهم رهائن للنقابات.
إن الإضراب حق دستوري بشرط تطبيقه وفق ضوابط دستورية وإنسانية، ومن ذلك حق العمل في البلاد، واستمرار الحياة الطبيعية، فهما أيضا مقدسان. الإضراب في الدول الغربية الأخرى هو السلاح النهائي بعد فشل المفاوضات، واستنفاد كل فرص الاتفاق؛ أما في فرنسا، فالإضرابات، والمظاهرات التي ترافقها، قد تحولت خلال العقود الأخيرة لنوع من الهوس، وكأول سلاح، بل حتى قبل أن يصدر القانون المنوي اتخاذه، ودراسة تفصيلاته بدقة.
إن حيثيات خطة تقليص الانتفاخ الإداري قائمة على أن 55 بالمائة من الميزانية الحكومية تذهب رواتب للموظفين، بينما يزيد العجز، والديون، عن 2800 مليار يورور، علما بأن أحدا لن يفقد وظيفته، بل الخطة تطبق عند حلول تقاعد الموظفين.
بالنسبة لخدمات الحد الأدنى في المدرسة الابتدائية، ورياض الأطفال، فهي قاعدة معمول بها في أكثر الدول الغربية ووفقا لصيغ معينة، وبالتفاهم مع نقابات المعلمين. أما في ألمانيا، والنمسا، فلا يحق للمدرس أن يضرب.إن هذه الخدمات تنادي بها أمهات وآباء الأطفال وبإلحاح، لكي لا يضطروا لأخذ إجازة يوم من العمل للبقاء مع الأطفال، وإذا كانت العائلات حسنة الوضع الاقتصادي قادرة ماليا على استخدام امرأة [ بيبي ستر] للبقاء مع الأطفال، فإن عائلات الدخل المحدود عاجزة عن ذلك. أما في ألمانيا والنمسا فمحظور إضراب المدرسين.
إن ضمان الحد الأدنى ليس مسا بحق الإضراب كما تدعي النقابات والتنظيمات المهنية، بل يعني ضمان هذا الحق مع ضمان استمرار الحياة الطبيعية، والعمل في البلاد، و الحكومة لا تجبر معلما مضربا على الدوام، بل المطلوب من البلديات أن يقوم موظفوها برعاية الأطفال في المدرسة في أيام الإضراب.
لقد اندلعت أيضا معركة برلمانية حول مشروع حكومي يقضي بجواز استخدام تكنولوجيا البيولوجيا في تغيير وتكييف جينات بعض المزروعات، والذرة خاصة، لتكون أكثر إنتاجية، وأفضل نوعا. في الحقيقة أن المسألة هي موضع جدال مستمر في الأوساط السياسية، والعلمية، الأوروبية، ما بين رافض، وهو موقف الخضر خاصة، وبين مجيز بشروط صارمة، ووفق ضوابط محددة، وبين من يطالبون بحرية هذه العمليات.إن كل اليسار عارض المشروع الحكومي الفرنسي، وفي داخل الأكثرية البرلمانية نفسها بلبلة، وخلافات حولها، وقد تغيب عدد كبير من نواب الأكثرية في جلسة التصويت مما أدى لرد المشروع بصيغته الراهنة، وسوف تقدم الحكومة مشروعا معدلا للجمعية العمومية، ومجلس الشيوخ.
وجهات نظر مؤلفين فرنسيين عن صعوبات الإصلاح:
قبل الانتقال لموضوعنا الرئيس عن تقييم العام الأول من ولاية سركوزي، نود الإشارة لمقالاتنا السابقة في استعراض كتاب نيقولا بافارية quot; فرنسا التي تتداعىquot;، وكتاب جاك مارسيّ quot;الاستخدام الرشيد للحرب الأهلية في فرنساquot;، وقبل هذين، صدرت كتب أخرى تذهب لما يذهب إليه المؤلفان، وكل ذلك قبل الانتخابات الرئاسية.
المؤلفان يبينون صعوبات الإصلاح في فرنسا بالنسبة لغيرها من الدول الغربية الأخرى، حيث هناك ما يشبه المحرمات التي لا يمكن المس بها ومنها، 35 ساعة عمل، والقيوم الكثيرة في سوق العمل، وعقود العمل، وقضية خدمات الحد الأدنى، وإصلاح الجامعات، وضبط الهجرة غير الشرعية، وثقل وطأة الضرائب التي هي أعلى من دول غربية أخرى، وهناك قضايا غير ما مرت. إن البرنامج الانتخابي لسركوزي وضع إصلاحات هذه المشاكل في برنامجه الانتخابي الذي انتخبته من أجله أكثرية الناخبين. يؤكد المؤلفان المذكوران تأكيدا خاصا على واقع عدم قدرة اقتصاد فرنسا على مواجهة المنافسات الخارجية، بسبب قلة الإنتاجية، الناجمة أولا عن قلة ساعات العمل، وكيف أن فرنسا لا تستطيع كغيرها أن تتكيف مع ظاهرة العولمة. يقول بافاريه إن قيادات فرنسا تكره التغيير، وتعمل على جمود الوضع القائم، وما يتصرف بالبلاد هي عقلية الرضا بما قائم، وهي عقلية تستحوذ، في نظر المؤلف، على رجالات السياسة والموظفين، والنقابيين، يمينا، ويسارا. إنهم لا هم لهم غير بقاء نظام quot;فاشلquot; يحمي مصالحهم، وامتيازاتهم، ويسمونهquot;الخصوصية الفرنسية.
إن خلاصة الكتابين، وكتب قبلهما، هي أن الإصلاح هو أصعب بكثير من الثورة المسلحة، فالأخيرة تبدل المجتمع بالقوة، والإصلاحات تستثير مقاومة عنيفة من كل من يتشبثون بامتيازاتهم، ويخافون أن يؤدي الإصلاح للمس بها، وهؤلاء يزداد عددهم باستمرار، ويصوتون أكثر، وبين الشباب، الذين هم أقلية، ويصوتون أقل. الشباب يعاني من البطالة، والعائلات تخشى على مستقبل أولادها، ونظام التعليم منفصل عن العمل، ومتخلف بالنسبة لدول كالولايات المتحدة، وبريطانيا فلا عجب في هاب أعداد كبيرة من الطلبة الفرنسيين للدراسة في بريطانيا.
يقول مارسيّ إن فرنسا بحاجة لثورة إصلاحية،سلمية تحقق التغيير بقفزات إصلاحية مترابطة، تغيير سيلقى مقاومة ضارية من الساعين لبقاء الوضع الراهن كما هو.
quot; إن حرب فرنسا اليوم هي بين من يريدون الصعود، ومن يخشون الهبوط، بين الشيوخ الرابحين، والشباب الخاسر، بين من يمارسون العنف، وبين ضحاياه. إن الشباب يواجه البطالة، ولكن عليه في نفس الوقت تسديد الديون الفرنسية المتراكمة، [ أكثر من 2800 مليار يورو]، والتي ليس له دور في تراكمها، وإنما جاءت لدفع فواتير الامتيازات التي نالها quot; الشيوخquot; على مدى العقود السابقةquot;، [جاك مارسيّ ].