أهداء: أهدي هذا المجهود إلى المفكر العراقي إبراهيم العبادي، وأشكره على مساعدته لي في صياغة الكثير من الافكار في هذه المقالة المتواضعة، وأتمنى له المزيد من عطاء الفكر الحر، شكري ومحبتي مرّة أخرى.
تصويب فهم مغلوط
في ضوء التعريف الذي يرى أن ا لامن القومي العراقي يعني قدرة العراق النسبية على مواجهة المخاطر التي تهدد وحدته وقيمه وشعبه، يمكننا أن نتحدث عن علاقة الأمن القومي العراقي بالجارة تركية، حيث يتزايد الحديث عن دور تركي في المستقبل يتسم بالفاعلية والنشاط والحيوية في منطقة الشرق الاوسط.
الحديث عن هذه العلاقة طالما يتركز على مخاوف (تركيِّة) من مخاطر قيام دولة كردية في شمال العراق، وفي الاثناء يُشار إلى أ ن (تركيا) تملك أجندة في داخل العراق، متمثلة بالاقلية التركمانية، خاصة ذات التوجهات القومية المتشدّدة، وربما تتم الاشارة أيضا إلى دور تركي محتمل لمواجهة النفوذ الايراني في الشرق الاوسط، وفي المقدمة العراق، كما أنها قد تقوم بدور موازاة نفوذ شيعي تؤكد بعض المصادر بداية تغلغله في دوائر سنية عربية وغير عربية، وذلك بالتنسيق والتفاهم مع المملكة العربية السعودية، يتناول الحديث هنا كذك ما هو معروف عن أ طماع (تركية) التاريخية في موصل العراق الغنية بالنفط، وتطلّع (تركي) لضم هذه الولاية إلى تركيا فيما تعرّض العراق للتقسيم بشكل وآ خر.
هذه الكلام غريب عن موضوعنا، فهو كلام عن (الامن القومي التركي) أساسا و بشكل عام، فيما نحن نتحدث عن (الأمن القومي العراقي)، وعلاقة تركيا بذلك، وفارق كبير بين الموضوعين كما هو واضح.
هبة النهر والهضبة والجبل
يتأسس العراق مساحةً غريبة الشكل بين خطين مزدوجين من المدن بمحافظاتها وأقضيتها وقصباتها عبر أنسجتها المتنوّعة من سهل وجبل وصحراء ووادي، وكل شبكات حركتها الحية الصاخبة أحيانا، الهادئة أحيانا أخرى. الخط المزدوج الاول هو الرافدان، دجلة والفرات، حيث يغلب على هويتها المدن المُعيِّنة صفة (الضفافية / الوقوع على ضفاف النهر على جهتيه)، رغم تباعد نسبي لبعض مدنه عن ضفة النهر لأسباب تاريخية غائرة في القدم تغيُّر مجرى النهر فيما بعضها لأسباب طبيعية تكوينية القرب من الروافد التي تصب في دجلة من الأعالي، الزاب الكبير، الزاب الصغير، العظيم، نهر ديالى، مما قد يهدد بخطر الفيضان، والخط المزودج الثاني، هو هضبة (آشور) على الجهة اليسرى الشرق من نهر دجلة، يحددها بعضهم مساحة ً هضبية بين الزاب الكبير في الاعالي القريبة وبين ديالى الوسط، وكأنه يشكل قاعدة لخط رأسي يتجه بعنف نحو الشمال، ذلك هو خط الجبل، وفي هذ الخط الهضبي / الجبلي المزودج تستمد الحياة أسباب بقائها من السماء وليس من الأرض، مطرا وليس نهرا، تستقر مدن الجبل خصوصا على السفوح والقمم،، وكل ذلك يؤدي إلى تشاطر حاد بين نمطين من الحياة والتاريخ من خط لآخر!
يتفرع الفرات جنوبا عند الهندية شط الهندية، شط الحلة، ثم يتوحد مرّة أخرى شمال السماوة، فيما يتلقى دجلة الروافد شمالا، الاول تغتلب عليه صفة الرسوبية، فيما يتسم دجلة بكونه نهرا صخريا إلى حد ما. في الأعالي تشمخ الموصل سيدة الجزيرة، وفي الجنوب تشخص البصرة ثغرا عراقيا وحيدا مفتوحا على الخليج ثم البحر ثم المحيط، وبينهما تشخص بغداد وكانها سرّة مفتونة بشبق النهرين، إذ يقتربان عندها سفاحا شهويا خارقا.
هذا هو العراق، هبة هذين الخطين المزدوجين، خط النهر وخط الجبل، وبين النهر والجبل تسميات كثيرة، لا مجال للحديث عنها هنا، فما علاقة ذلك بالجارة تركيا؟
تركيا في العمق!
المعروف إن دجلة وا لفرات هما مصدر الماء الرئيسي في العراق، وذلك ضمن مسيرة معقدة لكلا النهرين في الأراضي العراقية، حيث تكثر تفرعات الفرات في الجنوب، فيما تزود الروافد دجلة في الأعالي، ومنها روافد تقع في الأراضي التركية!
تقع منابع كلا النهرين في جبال تركيا، حيث يكثر سقوط الثلوج هناك.
يبلغ طول نهر الفرات (2900) كليومتر، وينبع أساسا من من جبال شرقي تركيا ا لموصوفة بالوعورة الشديدة، يقطع في الار اضي التركية حوالي ( 440) كليومترا، ثم يدخل العراق عبر مروره ب (سوريا) من قرية (حصيبة)، ليقطع رحلة طويلة داخل العراق، حيث تتنتظم على ضفتيه المدن على نسب متفاوتة من الكثافة والتراص.
يبلغ طول دجلة (1970) كيلومترا، ينبع من المناطق الجبلية الممطرة في جنوب تركيا، يقطع حوالي (300) كيلومترا داخل الأراضي التركية، يدخل العراق من قرية (فيشاخبور) ليقطع حوالي (1290) كيلومترا في أرض العراق. مما يتميز به دجلة عن الفرات، أن هناك أربعة روافد مهمة تزوده بالمياه، الخابور وينبع أساسا من مرتفعات تركية، ويلتقي نهر دجلة من نقطة دخوله العراق، أي في (فيشخابور)، ثم الزاب الكبير، وهو الرافد ا لمهم لنهر دجلة، ينبع من مرتفعات تركية، ويصب مائه في النهر من مدينة (نمرود)، ثم ا لزاب الصغير وينبع من المرتفعات الشرقية، ويلتقي دجلة عند مدينة ( الشرقاط)، وآخيرا نهر العظيم، وتقع منابعه داخل الاراضي العراقية، ويصب ما ؤه في النهر عند مدينة (بلد).
إذن منابع النهرين تقع في الاراضي التركية، والعراق هبة أ ربعة خطوط كما أسلفنا، منها خطان متوازيان، هما دجلة والفرات، وإن هوية مدن العراق هي مدن ضفاف في الدرجة الأولى،
مما يعني إن موقع تركيا من العراق يشكل مفتاح الحيوية والمصير في بلاد الرافدين!
تبلغ الحدود العراقية التركية (377) كليومتر، وهي حدود جبلية وعرة، ولكن لا قيمة لها نسبة إلى وقوع منابع دجلة والفرات في اعالي تركيا، لأن النهرين هما مصدر الحياة في العراق، مصدر المياه، والمعركة القادمة في العالم هي معارك مياه، خاصة في الشرق الأ وسط.
يقول سياسيون إن (تركيا) تستطيع أن تستخدم هذه المفارقة عامل ضغط على العراق بإتجاه مصالحها، ولكن هذا اللون من التعبير عامل ضغط غير واف أبدا، إن تركيا تستطيع أن (تتحكّم) بمستقبل العراق المائي، لأن المنابع في قبضتها، ولا ننسى يوم قررت سوريا حرمان العراق من حقه في ماء الفرات بطريقة ما، بحجة أن العراق لم يدفع كامل مستحقات مرور أحد خطوط نفطه عبر سوريا، وفي حينه مر العراق بأزمة صارخة، شفّت الا رض، وجفَّت الاهوار، وهجر الفلاحون الارض، وغلت الاسعار، وكان ذلك في مدة زمنية قصيرة، فكيف إذا قررت تركيا أن تتحكم في المنابع لسبب أو آخر؟
إن (تركيا) تقع في قلب العراق،إنها بمقدار ما تقع على الحدود العراقية تقع في قلب العراق، هناك حضور تركي في العمق العراقي، خاصة وإن معالم معارك المياه قادمة، وفي الشرق الاوسط قبل غيره.
لغة التجربة
لقد أثبتت التجارب إن وقوف أنقرة إلى جانب الجبل العراقي ضد بغداد يربك المركز، ويكلفه ا لكثير من الدم والمال والخراب، وإن حل مشكلة الجبل العراقي مع بغداد لابد أن يمر عبر أنقرة، بشكل وآخر.
إن الجبل العراقي في تركيا كما هو الماء العراقي في تركيا، ومن هنا نستطيع أن نكتشف الخطر الكبير الذي يهدد الامن القومي العراقي من جهة تركيا.
إنه خطر قائم بالقوّة، ويمكن أن يكون خطرا بالفعل في أي لحظة ممكنة، تبعا لتقلبات السياسة وتغير المصالح وتقلبها.
هنا ينبغي أن نشير إلى أن نقل نفط كركوك عبر الاراضي التركية هو الآخر يشكل أحد ممكنات الضغط التركي على العراق أو (التحكّم)، وكما نعلم إن إقتصاد العراق يعتمد على النفط بشكل أساسي وجوهري، وربما شبه نهائي، مما يعطي أهمية كبرى لعامل الضغط التركي هذا على العراق. وبالتالي، تركيا تمتلك مفاتيح ضغط، بل تحكم مهمة في علاقتها بالعراق. ثم يأتي عامل آخر، هو الاقلية التركية في العراق، وإ ن لم تشكل عامل ضغط كبير، نظرا لأنها أ قلية، ومحاصرة من قبل قوميات أخرى في محل إقامتها وتوجدها، على أنّ إستفحال النزعة القومية في العالم الإسلامي، وفي الشرق الاوسط، وتنامي الوعي الاثني وتصاعد وتيرة حقوق الاقليات كقيمة مهمة اليوم في الفكر السياسي، يجعل من الأقلية، مهما كانت بسيطة ذات أثر لا يمكن تجاهله.
شمال العراق... مجال حيوي تركي!
كثيرة هي القضايا التي تهم تركيا ونحن نتحدث عن علاقتها بالأمن القومي العراقي، ويمكن أن ندرج منها ما يلي:
أولا: دولة كردية في شمال العراق.
ثانيا: تطبيع كركوك كرديا.
ثالثا: تغليب حكومة ذات نكهة شيعية في ا لعراق.
رابعا: تهميش دور الأقلية التركية.
خامسا: تحول شمال العراق إلى ملجا لأحزاب تركية معارضة مسلحة.
هذه هي أهم المخاوف التركية من جهة العراق، وهي مخاوف ليست بسيطة بل مركبة، معقدة، تمس قضايا جوهرية بالنسبة للدولة، إنها تتعلق بجوهر (الامن القومي التركي) وهي مخاوف جادة، وعلى تماس مباشر بأمن ومصالح تركيا كما يقول الاتراك، وتتسم بالحضور، والتواجد، وأمكانية التجدد والتصاعد، خاصة على صعيد الدولة الكردية وتطبيع كركوك كرديا، وأن يتحول شمال العراق إلى بيئة مسلحة ضد النظام التركي. ومن هنا يمكن القول إن شمال العراق يعتبر جزءا من المجال الحيوي للأمن التركي بنظر الاتراك، بنظر النظام التركي، مهما كانت هويته، علماني أو إسلامي، عسكري أو مدني، أي تركيا في ضوء هذه المقتربات على أهبة الاستعداد الدائم على حدودها مع العراق، هناك عيون تركية دائمة الرصد على هذه الحدود، هناك حذر قائم، وبالفعل، فإن مر اجعة بسيطة لسياسة تركيا من العراق خلال عشرين سنة على سبيل المثال، سوف تطلعنا على الشواهد الكثيرة التي تبرهن على صدق هذه التصورات، فالقوات التركية طالما إجتاحت الشمال العراقي، وقامت بضرب من تسميهم ب (المتمردين الأكراد) هناك، وطالما تدخل في خلاف شديد مع القيادات الكردية العراقية يصل إلى حد التهديد بالحرب والقتال، بل ذلك ما يحصل كثيرا.
ليس أمام العراق كي يضمن أمنه القومي من هذه الجهة سوى أن يكون قويا، على جميع الاصعدة العسكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية، كما أنه مدعو إلى تمتين علاقته ب (تركيا)، وذلك على مستوى عال من التعاون والتداخل وفي كل المجالات، خاصة الإقتصادية منها، فإن ذلك سيكون مدخلا حيويا لضمان السلام على الحدود، وليس من شك أن قيام علاقا ت تعاون على الصعيد الامني هو الاخر يضمن مثل هذه النتيجة المرجوة، وقبل هذا وذاك، أن تكون قيادة البلد الحقيقة بالمركز وليس تحت تصرّف أقاليم أو كانتونات أو فيدراليات، مهما كان لونها الجغرافي والقومي والديني والمذهبي.