لا خلاف على أهمية اتفاق الدوحة وما يمثله لحد الآن من تقدم كبير نحو حل الأزمة التي يمر بها لبنان منذ أكثر من سنة، وخصوصاً منذ 8 أيار (مايو) الماضي، عندما طفحت هذه الأزمة على السطح بصدامات مسلحة واعتداءات على المدنيين وتخريب لمقرات بعض وسائل الاعلام. فبالإضافة إلى الجهود الكبيرة للدول العربية وجامعتها، استطاعت الأطراف اللبنانية بمعاناة كبيرة تجاوز صراعاتها وجراحاتها وتوقيع اتفاق الدوحة على طريقة لا غالب ولا مغلوب. ولكن النجاح الفعلي لا زال قيد التحقيق إذ يكمن في التنفيذ المتواصل لهذا الاتفاق في إطار المصلحة اللبنانية العليا وروحية التعاون التي ستتعامل بها مختلف الأطراف لترجمة بنود هذا الاتفاق إلى واقع ملموس. فإذا كان الأمر واضحاً بالنسبة لانتخاب رئيس الجمهورية، فان تشكيل الحكومة (16+11+3) وقانون الانتخابات واحترام سيادة الدولة على كامل الإقليم وعدم استخدام العنف، كل هذه المسائل ستكون بمثابة محك اختبار لجدية الأطراف الموقعة للاتفاق. وكما كتب أبناء لبنان يوم مغادرة المفاوضين إلى الدوحة: quot;لا تعودوا بدون اتفاقquot;، فان اللبنانيين وكل العرب المحبين للبنان يقولون لهم اليوم: quot;لا تعودوا إلا لتنفيذ الاتفاقquot;، فالتنفيذ الجدي والمتوازن هو الضمان لعدم وقوع البلد في كارثة جديدة وهو الذي يشكل اليوم الرهان الحقيقي في لبنان كأي اتفاق ينتظر التنفيذ، لا سيما في المجالات المتعلقة بالدستور والنظام السياسي.

ويمكن اختصار أهم معايير نجاح الجهود الحالية والمستقبلية بالنقاط التالية:
1- التخلص من الجوانب العالقة والوقتية من الاتفاق نحو تثبيت النظام السياسي واستقراره. وأفضل مثل على ذلك المبدأ الذي اعتبرته المعارضة، في سياق علاقاتها الحالية بمعسكر الموالاة، ضماناً لمصالحها وهو ما سمي بالثلث المعطل (لقرارات الحكومة). حيث يمكن أن يتحول بسهولة الى ثلث معطل لمجمل النظام السياسي، فهو أشبه باللغم الذي يهدد الاستقرار الدستوري لأي بلد. لذلك ينبغي العمل على استبداله بعد الانتخابات القادمة بآليات أخرى تضمن مكانة معينة للمعارضة كالتشاور الدوري أو تحديد المواضيع الخطيرة التي يتم فيها تقريب وجهات النظر بين أحزاب الأغلبية التي تحكم وأحزاب الأقلية قبل اتخاذ القرار من قبل الحكومة. وهكذا تصبح المعارضة مؤثرة في القرار وتعمل في نفس الوقت على تحضير نفسها للانتخابات القادمة، بدل إضعاف الحكومة باسم التوافق، وهو ما لا ينفع بالنتيجة أي طرف سياسي : فقد يبدو له نافعاً ndash;وهو في المعارضة- ولكن سيضر به عند تسلمه رئاسة الحكومة، وبالتالي سيضر ذلك بالبلد على الدوام ومهما كان لون الأغلبية وشخص رئيس الحكومة. لماذا يتقبل البعض يا ترى وجود الدكتاتوريات الفتاكة ndash;كأمر واقع- بينما يعمل على إضعاف الحكومة ودولة القانون عندما يختار شعبه النظام الديمقراطي.
- التخلص قدر الامكان من التأسيس الطائفي للنظام السياسي اللبناني، صحيح أن الطائفية في لبنان مؤسسة ومنذ زمن بعيد ضمن النظام السياسي اللبناني ولكنها ليست قدر لبنان، ويمكن العمل بتدرج وعقلانية على تخليص البلد من هذا السرطان ونتوقع من خبراء الدستور اللبناني والأساتذة المختصين بالواقع الاجتماعي/السياسي في لبنان أن يبتكروا الاقتراحات المناسبة لإجراء التغييرات الدستورية والقانونية. كذلك يمكن الاستفادة من الحركة الثقافية والفنية في هذا الاتجاه وتشجيع الأحزاب والكتل السياسية على اختيار الأطر الوطنية لفكرها وبرنامجها السياسي، وقد يكسبوا الكثير من أصوات الذين تعبوا مما جلبته الطائفية للبنان. ويمكن أيضاً للهيئات الدينية، مسيحية كانت أم اسلامية أم غيرها، أن تلعب دوراً أساسياً في هذا المجال وذلك بتوجيه أتباعها نحو التمسك بالرابطة الوطنية. وينبغي هنا تقدير موقف المفتي الشيعي السيد علي الأمين عندما اعترض على قرارات حزب الله، فقد نبه من كان غافلاً عن ذلك أن حزب الله لا يمثل بمواقفه جميع أبناء الطائفة الشيعية في لبنان. ويذكرنا موقفه بالعدد الهائل من السنة والشيعة والمسيحيين وغيرهم من اللبنانيين الذين لا يربطون أفكارهم ومواقفهم فقط بانتماءاتهم الطائفية بل أيضاً بانتماءاتهم الفكرية والثقافية وفوق كل ذلك بانتمائهم الوطني لكل لبنان.
- وضع حزب الله: لا يمكن في إطار دولة القانون القبول بوجود جيش الى جانب جيش الدولة، ولا أن يتمكن تنظيم ما بخلق دولة داخل الدولة، وتفرض التجربة المريرة التي مر بها لبنان مؤخراً على الجميع أيجاد حل معقول للمشكلة التي تطرحها ميليشيات الأحزاب والجماعات المختلفة، لاسيما سلاح حزب الله، إذ لم يعد مبدأ مشروعية المقاومة (بحجة مزارع شبعا) كافياً لتبرير امتلاك فصيل معين لإمكانية فرض رأيه على الآخرين باستخدام هذا السلاح، فمجرد وجود هذا السلاح أضحى يشكل تهديداً للقوى الأخرى quot;إن هي تجرأت على...quot; ولا يمكن لطرف ما ndash;مع حلفائه- أن يفرض خياراته وتبعات قراراته على عموم المجتمع وكأن الآخرين قاصرون، وفيهم أطراف سياسية أساسية وهيئات اجتماعية معتبرة وحركات ثقافية كبرى ومصالح اقتصادية عمومية، الخ.

- والأمر المهم الآخر يتعلق بأهمية تحقيق الاستقرار والأمان الضروريين لمعايش الناس ومستوى معيشتهم ولتحقيق الحد الأدنى من المطالب الاقتصادية التي أصبحت مُلحّة، سواء بالنسبة للفقراء أو متوسطي الحال أو أصحاب المصالح والأموال. والمصلحة الوطنية اللبنانية مرتبطة أيضاً بمدى إيجابية الانطباع الذي تكونه المؤسسات الدولية والاستثمارات العالمية والاقليمية واللبنانية عن الاقتصاد اللبناني.
وبالتالي فان احترام الطبقة السياسية اللبنانية لمثل هذه المعايير في العملية الجارية لتقوية بناء دولة القانون في لبنان سيؤثر بشكل كبير على مصير هذا البلد وازدهاره. وكل ما يتمناه المرء وببساطة هو أن يلتزم القادة السياسيون من مختلف الأحزاب والتيارات بتنفيذ اتفاقهم بالتجرد المطلوب وبالنظر الى مصلحة لبنان في الحاضر والمستقبل.