من مفكرة سفير عربي في اليابان
يرتبط العمل الطيب في مجتمعاتنا العربية بالدخول للجنة بينما يؤدي العمل المشين لأبواب جهنم. فالكذب والخداع والجريمة والسرقة وشرب الخمر ولعب الميسر، كلها صفات تخيف مرتكبيها من دخول جهنم. أما في المجتمع الياباني فالجريمة والسرقة تدخل مرتكبيها السجن، والكذب والخداع ينفر الناس من صاحبها، بينما يعتبر شرب الساكيه سلوك شخصي. ويبقى السؤال ما هي الكبائر التي تدخل الأجنبي في اليابان لنار جهنم؟
لقد ناقشت الكاتبة اميي شافرز هذا السؤال في مقالها عن جهنم اليابانية بصحيفة اليابان تايمز الصادرة في الثالث من شهر مايو عام 2008، وذلك بعرض ثلاثة سيناريوهات للكبائر التي قد يرتكبها الأجنبي في اليابان. ويعرض السيناريو الأول لهذه الكبائر مشهد لدعوة ياباني صديق له للعشاء في بيته. وفي وسط الدعوة يرن جرس التلفون لأمر طارئ هام. فيعتذر الصديق ويركض خارجا ويتجه للمصعد. وفجأة يكتشف بأنه قد نسى مفتاح سيارته في منزل الصديق الياباني. فيرجع مسرعا ويدخل المنزل بدون أن يخلع حذائه، أو قد يخلع حذائه ويحمله بيده ويدخل غرفة الطعام ليأخذ المفتاح ويسرع بالخروج. وبذلك يكون قد ارتكب أحد أعظم الكبائر ولن تغفر له آلهة الكامي اليابانية، وسيدخل نار جهنم المخصصة للأجانب، ولن تكن نجاته مضمونة إلا بخلع الحذاء قبل دخول المنزل وتركه في الخارج مهما كانت الظروف وتباينت الأسباب.
ويعرض السيناريو الثاني مشهد لدخول موظف أجنبي لبنك ياباني محاولا التأكد من تحويل راتبه لحسابه الخاص. ويكتشف بأنه لا يستطيع أن يسحب نقودا من حسابه بعد أن نسي ختمه الخاص في البيت. ولم يستطع سحب النقود من حسابه، فيصرخ ويغضب ويترك البنك، أو قد يحاول أن يكون لطيفا مع موظف البنك ولكنه ينتقد الخدمة ويمتدح بنوك بلده، فيكون مرة أخرى قد ارتكب إحدى الكبائر ونتيجتها نار جهنم. ولن يتجنب دخول هذه النار إلا إذا استبدل غضبه وصراخه بسلوك مهذب هادئ وتحمل بصبر وسلام البيروقراطية اليابانية، وبذلك يضمن صك الوقاية من نار جهنم.
ويتعلق السيناريو الثالث مشهد للدعوة لموطن ياباني لبيت الأجنبي. فيحضر المضيف الأجنبي الشاي ويفتح الثلاجة ليجد قطعتين من الكعك أحدهما كبيرة الحجم والأخرى صغيرة. فيقرر أن يقدم القطعة الصغيرة من الكعك للضيف ويخفي القطعة الكبيرة في الثلاجة ليأكلها بعد أن يخرج الصديق. وقد يغير رأيه فيقوم بقطع القطعة الكبيرة من الكعك لقطع صغيرة ويقدمها للصديق الياباني. فيكون بذلك قد ارتكب عظيم الكبائر ومصيره نار جهنم، ولن يتجنبها إلا إذا غير رأيه وقدم القطعة الكبيرة من الكعك للصديق بنية صادقة وبدون ترد.
تلاحظ عزيزي القارئ بأن الكبائر في المجتمع الياباني مرتبطة بالسلوك وإرضاء الضمير وليس لها علاقة بالعبادة أو بتجاوز القانون. فتجاوز القانون يثبته القضاء الياباني وتحاسب عليه السلطات ولا تحتاج لتضيع وقت الفرد العادي في تقيمها. كما تعتبر العبادات واجبات فردية متعلقة بالإنسان وخالقه، أما التصرفات الشخصية الغير مسيئة للآخرين فمرتبطة بالشخص نفسه وبعيدة عن فضول أفراد مجتمعه. ومن صفات الشخصية اليابانية عدم التدخل في شئون الآخرين والابتعاد عن الفضول في معرفة مشاكل الناس، وذلك لسبب احترام الوقت وتقدير الخصوصية الشخصية. وتبرز احترام هذه الخصوصية في طريقة التحية اليابانية، فهناك دائرة شخصية لا يعتدي عليها الآخرين وحتى في أدب التحية. فنلاحظ الشخصية اليابانية التقليدية بأنها ترد على التحية ببعد خطوات وبابتسامة مهذبة هادئة وبانحنائه بسيطة وقورة، وتحاول أن تتجنب التعدي على الدائرة الشخصية الخاصة بالمصافحة واللمس. وتعتبر المعاملة الإنسانية اللطيفة الصادقة والبعيدة عن الأنانية في التعامل مع الآخرين، وحسن التعامل مع الطبيعة والحفاظ على مواردها وعدم البذخ في استهلاكها وقاية مضمونة من حبل النجاة من النار.
ويستخدم الشعب الياباني كلمة الجايجين هيل للتعبير عن مصير ارتكاب الأجانب للكبائر التي تدخل مرتكبيها نار جهنم اليابانية المخصصة لهم. وهي مشتقة من كلمتين كلمة جايجين وتعني المواطن الأجنبي وكلمة هيل وهي مشتقة من كلمة جهنم الانجليزية. ولكلمة جايجين قصص متشعبة في التاريخ والثقافة اليابانية، وتعطي إنطباعا عن نظرة الشخصية اليابانية للأجانب، ويعتبرها الكثيرون كلمة غير مهذبة لوصفها لضيف البلاد بشخص أجنبي غريب. وهي في الحقيقة مختصر لغوي سريع وحديث مشتق من الكلمة المركبة جي كوكو جين، والتي تعني الشخص الذي هو من خارج البلاد، وتعتبر هذه الكلمة أكثر أدبا واحتراما للأجانب.
وترجع كلمة الجيجين للملحمة اليابانية المسماة بالهيكه والتي تتحدث عن صراع بين عشيرتين يابانيتين قريبتين من العائلة الإمبراطورية هما عشيرة التيرا وعشيرة الميناتو. وقد أشتد الصراع بين هاتين العشيرتين في المنافسة للسيطرة على السلطة الحاكمة في عصر الأيدو في القرن الثالث عشر، واستعملت هذه الكلمة لتعبر عن الأعداء والمخبرين ضد كل من العشيرتين. وقد تعكس هذه الملحمة عن الواقع الياباني في القرن الثالث عشر حيث كانت البلاد منقسمة بين عشائر متحاربة وبدون حكومة مركزية قوية. فتلاحظ عزيزي القارئ بأن الشعب الياباني كان منغلقا في بلاده ولم يتعرف على الشخصية الأجنبية وثقافتها إلا بعد النصف الثاني من الألفية الأولى. كما لم يعتبر الشعب الياباني الشعوب المجاورة كالشعب الصيني والكوري كأجانب، بسبب أصولهم المغولية المشتركة وتقارب اللغة وسحنة الوجه. وفي القرن السادس بعد الميلاد انتقلت الحضارة الصينية للديوان الإمبراطوري والقضاء الياباني. وقد بدأت المواجه الحقيقة بين الشعب الياباني والغزاة في القرن الثالث عشر حينما غزت اليابان جحافل جيش المغول بقيادة حفيد جنكيزخان كابولا خان بأسطول كبير يحتوي على أربعة الإلف وخمسمائة سفينة حربية. وقد حارب عساكر السموراي ببسالة منقطعة النظير لرد العدوان، وحينما أستيقظ اليابانيون في الصباح اليوم التالي للمعركة اكتشفوا اختفاء الأسطول المغولي، واعتقدوا بأن طوفان إلهة الشمس قد أغرقه.
وقد بدأت أول مواجهة يابانية مع الأجانب الغربيين في القرن السادس عشر حينما استعملت كلمة البرابرة الجنوبيين للتعبير عن البحارة البرتغاليين الذين وصلوا للشواطئ اليابانية بعد أن تحطمت السفينة الصينية التي كانت تنقلهم للصين. وسمي المغامرين البريطانيين والهولنديين الذين وصلوا لليابان في القرن السابع عشر باسم الأشخاص ذو الشعور الحمراء. واستعملت كلمتي الأشخاص المختلفون، للعساكر الأمريكيين الذين نزلوا على شواطئ اليابان في القرن التاسع عشر حينما أمر القبطان الأمريكي بيري اليابانيين بفتح الشواطئ اليابانية للسفن الأمريكية. وأستعملت الكلمة المركبة الجي كوكو جين، والتي تعني شخص من خارج البلاد، في عصر الميجي في القرن التاسع عشر،حينما انفتحت اليابان على دول الغرب واستفادت من خبراتها وعلومها الصناعية. وحينما غزت اليابان كوريا وتيوان في القرن العشرين استخدم تعبير الأشخاص داخل البلاد، لتعبر عن مواطني المستعمرات اليابانية. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وحدت الكلمات المستعملة للتعبير عن المواطن الأجنبي بكلمة الجيكوكوجن. ويستعمل الشعب الياباني كلمة صيني وكوري للتسمية أهل هذه البلدان، بينما يستعمل كلمة نيكيجن للتعبير عن الياباني المولود في الخارج أو يعيش في الخارج، ويسمى الياباني ذو الأصول المختلطة بالهافوجين.
سفير مملكة البحرين ي اليابان