الرحلات المكوكية التي يقوم بها الرئيس الفرنسي ساركوزي منذ تسلمه السلطة نحو العالم العربي عامة وشمال إفريقيا بالخصوص تبين مدى قيمة هذه المنطقة في حد ذاتها ووزنها الاستراتيجي ومدى الأولوية التي يعطيها هذا الرئيس لهذه المنطقة في حساباته السياسية ومدى حاجته إليها لإعادة الاعتبار الى حضور فرنسا في العلاقات الدولية وتوثيقها أواصر التعاون مع جيرانها الجنوبيين المتوسطيين.
المدخل الذي وجده ساركوزي هو حث قادة هؤلاء الدول على ضرورة بناء الاتحاد المتوسطي وهو مشروع طموح وينطلق من فرضية قائمة ووحدة ثقافة مشتركة تعود الى آلاف السنين ومن محيط جغرافي متجانس ومتوحد أصلا ويتشابه في العادات والتقاليد واللباس وطريقة طهي الطعام والإنجاب وطرق تربية الأطفال وتدجين الحيوانات والعناية بالنباتات وفنون صيد الأسماك.
فكرة الاتحاد المتوسطي تطرح في ظل نجاح الاتحاد الأوروبي وتعثر لأفكار أخرى مثل الاتحاد المغاربي والاتحاد العربي وتأرجح فكرة الاتحاد الإفريقي وتطرح ضمن باب الشراكة والعولمة وإخراج هذه الشعوب من عزلتها وإدماجها في السوق العالمية وتحويل المتوسط الى واحة آمنة للاستثمار والتصنيع والتجارة الحرة وتسهيل تنقل اليد العاملة من أجل تحقيق أعلى معدلات النمو ومقاومة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها العالم والتي أطلت برأسها عند ارتفاع الأسعار وندرة مواد التموين وانخفاض قيمة الدولار وزيادة الطلب على المحروقات.
الأسئلة التي تطرح هنا هي: كيف سينجح الاتحاد المتوسطي في ظل وجود بعض الاتحاد الصغرى مثل الاتحاد المغاربي والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الدول الفرانكفونية ومنظمة الكومنولث أي الناطقة بالانجليزية؟ وهل هو تواصل مع فكرة الولايات المتحدة عن المتوسط الكبير؟ وهل حجزت اسرائيل لنفسها مكانا في هذا الاتحاد؟ وكيف سيتأسس الاتحاد والعديد من المشاكل والاستحقاقات مازالت غير مستوفية وعالقة بين الدول وبين الدول وشعوبها؟ وهل تلغي فكرة الاتحاد المتوسطي الكيانات والتجمعات الإقليمية القائمة؟
عندما جاء ساركوزي الى دول المغرب والمشرق العربيين لترويج فكرته المتوسطية لم تكن لديه إجابة عن هذه الأسئلة ولم يحدد علاقة هذا الكيان المفترض مع الكيانات القائمة الأخرى ومنزلته في السياسة الدولية ولم يحمل في جرابه سوى وعود بمساعدة الأنظمة في مواجهتها للإرهاب والتطرف وتمكينها من آليات لمقاومة ظاهرة الهجرة السرية ولم يتحدث عن ضرورة الإصلاح الديمقراطي في المنطقة وعن وضعية حقوق الانسان وعن وضعية الإعلام المعطلة وعن صحف المعارضة الممنوعة من النشر والتوزيع وعن الانتفاضات والاحتجاجات الاجتماعية المطالبة بتساوي الحظوظ وتكافؤ الفرص عند التشغيل وحق التمتع بمنظومة صحية متكاملة.
ساركوزي الذي تحدث كثيرا في الماضي عن مزايا الاستعمار ومنافعه على هذه الشعوب لا يدري أن فرنسا والإرث الأسود الذي تركته والذي لم تعتذر عنه ولم تقم بتعويضه هو الذي يمنع هذه الشعوب من النهوض والتعويل على نفسها واستئناف رحلة التنمية والتقدم.
ان الاستعمار لم يخلف فقط ضحايا بشرية ماتوا في الماضي ولم يستنزف خيرات البلاد لمدة زمنية معينة بل انه يخلف ضحايا أحياء يموتون في المستقبل كل يوم ألف مرة ويظل يمتص خيرات البلاد الى الأبد خاصة في ظل أزمة المياه والتلوث الذي يعاني منه بحر المتوسط والاحتباس الحراري وانجراف التربة وتزايد المد البحري والتهام البحر لليابسة وارتفاع درجات الحرارة ومعدلات التصحر وتقلص المساحات الخضراء والأراضي المخصصة للزراعة وفراغ المناطق الريفية وظواهر الازدحام والاكتظاظ في المدن علاوة على ارتفاع أسعار البترول والغاز والفسفاط والمواد الغذائية وخاصة الحبوب وفي ظل الصراع الدولي الكبير على هذه الخيرات وفي ظل تراجع الاعتناء بهذه القطاعات الإستراتيجية وندرة وضعف الاستثمار المحلي والخارجي فيها مقارنة بالإنفاق على قطاع الخدامات والتجارة والسياحة والصناعة.
النقاش حول بعث الاتحاد المتوسطي الذي بدأ في اسبانيا وتوجه بإعلان عملية برشلونة استقر في النهاية على رئاسة مشتركة بين فرنسا ومصر quot;للاتحاد من أجل المتوسطquot; بعد أن أبدت الجزائر امتعاضها عن وجود اسرائيل ورفضت فرنسا الاعتذار عن جرائمها الاستعمارية في شمال إفريقيا وحديثها المتواصل عن منافع الاستعمار وهو ما اعتبرته الجزائر تصلبا يعود العيش المشترك ويمنع الشراكة بين شمال المتوسط وجنوبه.
ان التوجه العربي العام انصب حول تغيير الاسم والمطالبة بأن تستضيف أحد دول الجنوب مقر هذا الاتحاد المفترض وأن يشارك العرب فيه تحت عباءة الجامعة العربية وليس بشكل منفرد وأن يتم التداول على رئاسة هذا الاتحاد بعد كل سنتين.
الأمر الكوميدي أن بعض العرب التي لهم علاقات ديبلوماسية مع اسرائيل اعترفوا بنجاح التطبيع واكتفوا بالاستفسار عن وضع اسرائيل في الاتحاد المتوسطي هل من دول الجنوب أم من دول الشمال والبعض الآخر طالب بأن يضم الاتحاد كل دول المتوسط دون استثناء بما في ذلك كرواتيا والجبل الأسود ولم يتحدثوا عن دولة فلسطين ومصيرها في ظل الحصار والتجويع والتشتيت وتقطيع الأوصال بين محافظاتها ومدنها ولم يذكروا الصحراء الغربية ككيان سياسي وشمال قبرص ودولة كوسوفو التي أعلنت استقلالها منذ مدة ولم يعترف بها العرب الذين يعترفون بإسرائيل ولم يعاملوها بالمثل معها.
النية تتجه الى المغرب أو تونس لاستضافة هذا الاتحاد وربما يقع الإعلان عن بعثه في الاجتماع العربي الأوروبي المقبل يومي 9/10 جويلية في سلوفينيا ومحاور الاهتمام هي المزيد من التكتل والتحالف وتفعيل العمل المشترك في مجال الاقتصاد والسياسة من أجل حل النزاعات وتحقيق التفاهم بين الشعوب لمواجهة العولمة واحتلال موقع في العالم في ظل احتدام المنافسة بين التكتلات الكبرى، لكن التحفظات والعراقيل التي ستواجه قيام هذا الاتحاد هي موقع الدول العربية والإسلامية فيه والدور الذي يمكن أن تقوم به والمطلوب هو أن يكون هناك احترام متبادل وعدالة مساواتية في الانتماء وعدم توظيفه لمصلحة فريق دون آخر وأن يحترم فيه التنوع والاختلاف وأن تعطي جميع الحقوق لأصحابها وأن تكون القيم الانسانية المشتركة هي الأساس والقاعدة وليس تغليب رأي خصوصي على الأكثرية.
فهل سينجح العرب في مشاركة الأوربيين في بناء اتحاد من أجل المتوسط بعد أن تعثروا في تفعيل الكيانات والتجمعات الإقليمية القائمة وبعد أن أفقدوها النجاعة التشاركية المطلوبة؟ ما مستقبل الاتحاد المغاربي والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي وغيرهم في ظل بعث الاتحاد من أجل المتوسط وضمه لمختلف الدول المغاربية والعربية والإفريقية المطلة على المتوسط؟ ألا يعيد هذا الكيان الجديد انتشار دول الشمال وهيمنتها على دول الجنوب من جديد؟ أليس هناك اعتراف من طرف دول الجنوب بكونها دول أطراف تابعة لدول المركز الأوروبي؟ فكيف ستحقق دول الأطراف تنمية عادلة في ظل تطور لامتكافىء وتقسيم إقليمي متفاوت للعمل؟
* كاتب فلسفي