في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 أنفجر التوتر الكامن بين المجتمع العلماني والدين في الغرب... وسبق هذا الحدث الكبير مباشرة، الخلاف بين رجال العلم والدين حول: ما إذا كان يجوز لنا أن نخضع للتشيء الذاتي من خلال تقنية الجينات، والي أي حد يكون ذلك ممكنا؟.. وحسب quot; يورجن هابرماس quot; شيخ الفلاسفة في العالم اليوم: quot; فإن العلم ينير العقل ويبدد أوهامه الكثيرة حول العالم. وحين نتعلم شيئا جديدا عن أنفسنا ككائنات في العالم يتغير مضمون فهمنا الذاتي. وقد قلب كوبرنيكوس وداروين صورة العالم التي كانت تتمركز حول الأرض وحول الإنسان رأسا على عقب.
بيد أن تخريب الوعي الفلكي فيما يتعلق بمدار النجوم ترك في عالم الحياة آثارا أقل مما تركه نزع الوهم البيولوجي فيما يتعلق بمكانة الإنسان في تاريخ الطبيعة. ويبدو أن المعارف العلمية تزعج فهـمنا الذاتي بدرجة أكبر كلما اقتربت منا quot;.
وحتى نفهم مغزى كلام هابرماس، يجدر بنا التوقف عند حدثين مهمين، في النصف الأول من هذا العام 2008، لأنهما يكشفان أن quot; العلمنة quot; في الغرب quot; عملية مستمرة quot; وتنمو بإطراد، وأن حالة المد والجزر بين الدين والعلم لم تنته كلية، وإن كانت ليست بالمعني السائد عندنا بالقطع.
في شهر يناير الماضي، أعلنت مجموعات من طلاب كلية العلوم بجامعة quot; لا سابيينزا quot; الإيطالية رفضها زيارة بابا الفاتيكان quot;بنيدكت السادس عشرquot; للجامعة، إحتجاجا على إعلان رفضه لاعتراف الكنيسة بخطأ إعتقال وتعذيب العالم الايطالى quot;جاليليوquot;، عام 1990.. حيث أكد البابا وقتها أن الكنيسة كانت على حق بعد أن أيد نظرية دوران الأرض حول الشمس لكوبرنيقوس، بينما كانت الكنيسة تؤكد العكس.
وخشت إدارة الجامعة والمنظمون من دولة الفاتيكان أن يتسع نطاق الاحتجاج لطلاب آخرين خلال إلقاء البابا كلمته فى إحتفالية إفتتاح العام الأكاديمى الجديد، فتم إرجاء زيارة البابا، بعد أن أكد المحتجون علي أنهم سينظمون مظاهرات ويرفعون اللافتات الرافضة لفكر البابا ضد العلم داخل أسوار الحرم الجامعى.
الرد علي هذه الواقعة التي ظلت تتفاعل في كل أوروبا، وداخل الفاتيكان أيضا، جاء قبل أيام علي لسان كبير الفلكيين فى الفاتيكان، القس quot; خوسيه جابريل فيونز quot;، الذي يدير المرصد الفلكي اليسوعي rlm;. وحسب quot;لاسورفاتوري رومانوquot;، صحيفة الفاتيكان الرسمية: quot; فإن العلم، وخصوصاً علم الفلك، لا يتناقض البتة مع الدين quot;... quot; وهذا هو رأى الحبر الأعظم البابا بنديكت السادس عشر الذى جعل من الربط بين العلم والإيمان أحد أسباب توليه منصب البابا quot;. ودعا فيونز بحرارة، كلا من الكنيسة والمجتمع العلمى إلى نبذ الانقسامات التى تسببت بها محاكمة العالم جاليليو قبل نحو 400 عام، قائلاً quot; ذلك أمر سبب الكثير من الجراح والمتاعب.quot;.
فما هي خلفية هذا الانقسام والخلاف؟
تاريخيا، تأخر تطوير علم الطب حتى القرن الرابع عشر بسبب تحريم الكنيسة الكاثوليكية القيام بشريح جثة الميت، وأول من تجرأ على تشريح جثة ميت هو طبيب إيطالي في quot;بادواquot; بإيطاليا، وذلك عام (1315)، ولكنه لم يجرؤ على فتح رأسه وتشريح دماغه خوفًا من ارتكاب الخطيئة القاتلة، والخروج على تعاليم الدين المسيحي ، لذا كان يضع فوق طاولة التشريح كرسيًا لراهب يتلو صلوات من أجل راحة نفس الشخص الذي كان يشرحه، واستمر هذا الوضع حتى عام 1405، حين ألغى مجلس شيوخ البندقية سلطة محاكم التفتيشquot;.
ومما يذكر عن محاكم التفتيش في هذا الصدد أنها انتقمت من quot;بطرس الآبانويquot; - أبرز المؤسسين للرشدية اللاتينية في جامعة quot;بادواquot; بايطاليا عصر النهضة - حتى بعد وفاته، إذ مات بطرس ومجلس التفتيش يبحث قضيته، وكان عقابه حرق عظامه عقابًا له! لذا ظل اسمه في ذاكرة العوام مثقلاً بالمـكايد الجهنمية.
ومن المفارقات أيضًا أن quot;توركويماداquot; (1420 - 1498) - أشهر رئيس لمحاكم التفتيش في أسبانيا، كان يبرر إحراق مئات quot;الزنادقةquot; و quot;السحرةquot; على الخازوق (وتعريف الزنادقة والسحرة كان: كل منشق على الكنيسة الكاثوليكية أو رافض لها في العقيدة أو السلوك أو المصالح) بقوله: quot;نحن نحرقك في الدنيا رحمة بك، حتى ننقذك من النار الأبدية في الآخرةquot;.
وقد امتدت تهمة الزندقة إلىquot;الإبداعquot; العلمي وقتئذ، ذلك أنه كان ثورة على الموجود والقائم والمستقر، وإحلال الجديد محله، وأبرز نموذج في التاريخ الحديث هو quot;جاليليوquot; الذي أيد نظرية quot;كوبر نيكوسquot; القائلة بدوران الأرض حول الشمس، وهو ما يتعارض وتعاليم الكنيسة الكاثوليكية التي أكدت ثبات الأرض باعتبارها مركز الكون، واعتبرت القول بعكس ذلك quot;بدعةquot; وquot;ضلالةquot;.
فقد أصدر جاليليو كتابه المعنون بـ حوار حول النظامين الرئيسيين للكون: النظام البطليموسي والنظام الكوبرنيكي عام 1632، وأعلن في شجاعة: quot;أن نظرية مركزية الأرض ليست سوى خيالات ملفقةquot;. وفي العام 1632 منع كتابه وحظر نشره، وأدين جاليليو بالفعل من قبل محاكم التفتيش، واستمر هذا المنع حتى عام 1822، حيث أعيد نشره على نطاق واسع.
وتكشف مأساة جاليليو عن أمرين غاية في الأهمية، الأمر الأول هو أن جاليليو لم يتعرض للمساءلة والمحاكمة لمجرد قوله بدوران الأرض حول الشمس، أو لخروجه على نسق فكري لعلاقات بنية فلكية مستقرة تتبناها الكنيسة الكاثوليكية وهي quot;مركزية الأرضquot;، وإنما لأنه أبدع نسقًا فلكيًا جديدًا خلخل البنية الاجتماعية الطبقية السائدة والمستقرة آنذاك.
وقد عبر quot;برتولد بريشتquot; تعبيرًا رائعًا عن هذه الحقيقة في المشهد العاشر من مسرحيته (حياة جاليليو) إذ يقول منشد الجوقة في بعض المقاطع:
لما انتهى الرب القدير من خلق الدنيا
على الشمس نادى وإليها أصدر أمرًا
أن ترسل ضوءها حولنا وهي تدور
وهكذا بدأت تدور الكائنات الصغيرة حول الكبيرة
في السماء كما في الأرض
فحول البابا يدور الكرادلة
وحول الكرادلة يدور الأساقفة
وحول الأساقفة يدور الأمناء
وحول الأمناء يدور الآباء
وحول الآباء يدور الصناع
وحول الصناع يدور الخدم
وحول الخدم يدور الكلاب والدواجن والشحاذون
هذا أيها السادة الطيبون هو النظام
ولكن ماذا حدث بعد ذلك أيها الناس الطيبون...
جاء الدكتور جاليليو فألقى بعيدًا بالكتاب المقدس
ثم صوب منظاره وألقى على الكون العظيم في نظرة
وللشمس قال: ابقي في مكانك سيدير الإله الخالق كل شيء
على خلاف ما فعل.
آه.. آيتها السيدة: حول خادمتك
ستدورين منذ الآنquot;.
الأمر الثاني هو أن جاليليو quot;كان أول من استخدم اللغة العامية الإيطالية في الكتابة quot;العلميةquot; ومعروف أنه يتميز بروعة أسلوبه، فقد صدر أكثر من كتاب في الغرب يشيد ببلاغة جاليليو، وأن اختياره للعامية وتحديه للغة اللاتينية كان سببًا من الأسباب الرئيسية في عدم الرجوع عن إدانته. صدرت إدانة جاليليو عام 1633، حين أعلنت محكمة الكرسي المقدس، بعد محاكمة استمرت ستة شهور أنه: quot;يشتبه لآخر درجة في خروجه عن الدين القويم (الهرطقة) لأنه نادى وآمن بعقيدة كاذبة مخالفة للكتاب المقدس عقيدة مؤداها أن الشمس هي مركز العالم، وأنها تتحرك من الشرق للغرب، وأن الأرض تتحرك وليست مركز العالمquot;.
أضف إلى ذلك أن التحقيقات أثبتت أنه بدلاً من أن يكتفي بالدفاع عن مذاهب منحرفة إلى هذه الدرجة، فقد أراد نشرها على أوسع نطاق ممكن، واتبع حيلة تلخصت في اختياره الكتابة باللغة العامية.
فقد كانت الكنيسة الكاثوليكية تقدس اللغة اللاتينية لغة الدين والعلم في العصور الوسطى، وكانت تعتبر اللغات العامية أو الشعبية quot;لهجات منحطةquot;، وكان أول ما فعله quot;لوثرquot; في عصر النهضة هو ترجمته للكتاب المقدس من اللغة اللاتينية إلى اللغة الألمانية الدارجة وذلك في عام (1522 - 1530)، وكان يعتبر أفضل قاموس في العالم هو قاموس الأمهات في البيوت والأطفال في الشوارع والرجل العادي في السوق، وهو القاموس الذي استفاد منه في الترجمة، والذي أبدع من خلاله quot;جوتهquot; وquot;شيللرquot; وquot;هلدرلينquot;، من بعده، روائع الأدب الألماني العالمي.
وبالعودة إلي حديث القس quot; فيونز quot; المنشور في صحيفة الفاتيكان الرسمية، قبل أيام: فإنه فى العام 1992 أعلن البابا يوحنا بولس الثانى أن حكم الكنيسة ضد جاليليو كان quot;خطأ جسيماً نجم عن سوء فهم مأساوىquot;.... quot; وأن الكنيسة اعترفت بخطئها، وربما كان يمكن أن تفعل ذلك بشكل أفضل، لكننا الآن نقول إن الوقت حان لنبذ تلك الخلافات عن طريق الحوار الهادئ والتعاون المثمرquot;.
علي أن أهم ما قال هو: إن الاعتقاد بوجود كائنات فضائية لا يتعارض أو يتناقض مع عقيدة الإيمان بالله. لأن ضخامة هذا الكون تعنى أن هناك إمكانية لوجود حيوات أخرى خارج كوكب الأرض، وربما تكون هناك مخلوقات ذكية ومتطورة.
وتساءل فيونز quot; كيف يمكننا الجزم بأنه لا توجد حياة تطورت فى مكان آخر من الكون؟ فنحن نعتبر سكان الأرض إخواناً وأخوات لنا، فلم لا نفكر فى أن لنا أخوة فى الفضاء؟ وهم جزء من خلق الله quot;.... quot; إن الاعتقاد بوجود مخلوقات فضائية لا يتناقض مع الإيمان بالله، ذلك أن تلك المخلوقات ستكون من صنع الله أيضاً، وإنكار ذلك يكون كمن يضع حداً لقدرة الله ومشيئته quot;.
وأنهي فيونز تصريحه بأن quot; الإنجيل ليس كتاباً للعلوم، وأعتقد أن النظرية التى تقول إن الكون تشكل عقب انفجار كتلة ضخمة، من أكثر النظريات منطقية فيما يتعلق بنشأة الكون، لكننى على يقين بأن الله هو الخالق لكل شىء وأننا لسنا نتاج صدفة ما quot;.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]