في مقالنا السابق،quot; شهر فرنسي ساخنquot;، أشرنا لتزامن عدة مناسبات في شهر أيار المنصرم للتو، ومن بينها الذكري الأربعون لانتفاضة باريس في 1968، والذكرى الأولى لولاية سركوزي.
إن بين المناسبتين تماثلا في تزامنهما، وفي شعارات كل من الحدثين.
لقد انفجرت انتفاضة باريس، متزامنة مع عدة حركات تجديدية مهمة كان لها دوي دولي في التاريخ المعاصر، ولاسيما حركة ربيع براغ بقيادة دوبشيك، التي قمعتها الدبابات السوفيتية، وحركات الطلبة في أوروبا وشيكاغو، [ نقطة ضوء: إذا كان عمال فرنسا والطلبة قد انتفضوا ضد ما اعتبروه آثام النظام البورجوزي الغربي، فإن حركة التشيك كانت من أجل إلغاء النظام الشمولي الستاليني، والأخذ بنظام ديمقراطي انتخابي من نفس المدرسة الغربية.]
كان الشعار الرئيسي للانتفاضة هو التغيير، وكسر المحرمات المحنطة، وخصوصا في العلاقات بين الجنسين، واستعملت فيها الحجارة المقتلعة من الشارع، والأشجار المقطوعة، لمقاومة الشرطة، وإقامة المتاريس، وقلب السيارات. لقد انفجرت في ظروف وضع اقتصادي متدهور، وزيادة البطالة، وتخلف الجامعات. سركوزي أيضا جاء تحت شعارات التغيير، وquot;القطيعةquot; مع أصنام معبودة، كنظام التقاعد الخاص، وساعات عمل 35، وزيادة العطل، وتكلس سوق العمل وعقوده، وارتفاع الديون العامة، وضعف التنمية الاقتصادية، والضرائب الثقيلة، وكذلك مع شعار فرض الأمن، وسيادة القانون، وإصلاح النظام القضائي، وضبط الهجرة غير الشرعية، ألخ. أما التعارض، ففي محتوي شعار التغيير، والأساليب، والأهم أن جيل 1968، الذي ابيض شعره اليوم، والذي يقود احتفال الأربعين، هو الذي يصر على بقاء كل شيء على حاله، ورفض التغيير، والإصلاح. فالموازنة انقلبت، من رغبة تغيير من فوق، أي قمة السلطة، ومن رفض التغيير من تحت، وهو عكس ما حدث عام 1968، ورغم أن ذلك الجيل، الذي كسب امتيازات كبرى، يعرف أن شعارات أمس السياسية كانت غير واقعية، بل وسخيفة، فإن هذا الحماس للاحتفال قد يكون أولا حنينا لعهد الرومانسية الثوروية، ودورهم في الحركة.
إن كيفية الاحتفالات هي الأخرى تلفت النظر.
لقد كان في استقبال عام الرئيس الفرنسي مائة كتاب، أكثريتها نقد وتشكيك، ومنها ما حمل عناوين مثل quot;الملك عارياquot;، وquot;يجب أن يرحل،quot;، كما أعادت لوموند اليسارية نشر مقالاتها لعهد ذاك على صفحاتها الأولى، فضلا عن عشرات رسوم الكاريكتور الساخرة منه ومن زوجته، وبعضها كان خاليا من الذوق، وآداب الصحافة، قاد الحزب الاشتراكي هذه الحملة، والصحف اليسارية كلها مثل لبراسيون، ولودند، ومجلة الفضائح الكنار أنشينه.
بالعكس من هذا الاستقبال السلبي، بل الهائج غضبا لخسارة المرشحة الاشتراكية في الحملة الانتخابية، كان الاحتفال الحار بذكرى الانتفاضة، والذي شاركت فيه وسائل الإعلام. لقد جرت احتفالات الأربعين بنشر صور الانتفاضة، ومعارك الشوارع، والمتاريس، والسيارات المقلوبة، وأمام جامعة السوربون أقيم معرض صور خاص. إن الأكثر، هو أن صاحب محل حلويات مشهورا في شارع quot;سان جرمانquot;، صنع حلوى كبيرة تصور حجارة كتلك التي استعملت في مقاومة الشرطة عهد ذاك!
أما الصحف المناصرة للرئيس، فتؤكد أنه برغم قصر الفترة، فقد تحقق عدد من الإصلاحات الموعود بها، كمرونة عقود العمل، والحد الأدنى من الخدمات أيام إضرابات عمال النقل العام، و المدرسين، وكذلك تحقيق إصلاح الجامعات، والنظام القضائي، وتخفيض نسبة البطالة، نسبة نمو لم تكن منتظرة. إنهم يقولون إن كل من يقوم بإصلاح جرئ، يفقد في البداية شيئا من الشعبية نظرا لأن النتائج لا تظهر في فترة قصيرة، بينما المواطنون ينتظرنها بفقدان صبر، وتصدمهم المرارات والمصاعب الناتجة في البداية، فالشعبية ليست شعبوية غوغائية. ومما يضاعف صعوبات التغيير، وهبوط فالمستوى المعيشي كونها تجري في ظرف اقتصادي دولي صعب، بسبب الأزمة النقدية، وارتفاع استمر لسعر النفط، والوقود.
و الآن:
أ - ألا يشجع نشر تلك الصور، والمقالات، والمعارض، المتطرفين من الطلبة ومن أبناء الضواحي على مزيد من العنف الذي يستخدمونه اليوم في الإضرابات والمظاهرات؟؟
ب - لماذا اختيرت الذكرى الأربعون، وتنظيم احتفالات منقطعة النظير، لم ترافق الذكرى الأولى، أو العاشرة، أو العشرين، أو الثلاثين؟ أي لماذا اختيرت في عام ولاية سركوزي بالذات؟؟
لقد نشر الصوت المدوي للانتفاضة، دانييل بنديت، النائب البارز اليوم في البرلمان الأوروبي، مقالا تحليليا للانتفاضة في صحيفة الفيجلرو بتاريخ 17 و18 أيار المنصرم، ومن رأيه أن الانتفاضة حققت هدفها ثقافيا، إذ لم يبق كل شيء على حاله، في ميادين العلاقات الاجتماعية، والحرية الفردية، ومرونة النظرة للدين، وفي الغناء، والموسيقى، والسينما، ولولاها لما برز دور المرأة كما اليوم، حيث نجد عددا كبيرا من الوزيرات، ومنهن لوزارات مهمة، كالداخلية، والعدل، وذهب صحفي أمريكي لحد القول إنه لولا الانتفاضة لما أمكن لرجل في بداية الكهولة، كسركوزي، تبوء منصب رئيس جمهورية. كانت الحركة ثقافية، واجتماعية أولا، ولكن الماويين، والفوضويين خاصة، أرادوا تحويلها لثورة سياسية، فرفعوا شعار إزاحة مؤسسة الدولة، وإقامة نظام quot;الوحدات الذاتيةquot;، وكتب الفوضويون على الحيطان شعار quot;الممنوع ممنوع!!
لقد فشلت تلك المحاولات السياسية، إذ دعا رئيس الجمهورية ديجول لانتخابات عامة نجح فيها حزبه، وخرجت جماهير باريس في أهم الشوارع تهتف لديجول وتندد بما اعتبره المتظاهرون عمليات فوضى تهدد الأمن، والقانون، وعاد العمال لأعمالهم، وأزيحت المتاريس. هنا لاد من تسجيل أن ديجول لم يكن دكتاتورا، ولا رجعيا، إذ كانت له آراء اجتماعية جريئة بالنسبة لذلك الوقت. لقد صاغ قبل الانتفاضة، مع وزيره الأديب الكبير مارلو، برنامجا تفصيليا لتوزيع نصيب من أرباح الشركات والمصانع على العمال، ولكن رئيس الوزراء، بومبيدو، لم يتحمس للفكرة.
يقول دانيل بنديت إنه من الضروري إعادة استعراض الانتفاضة، ولكن لا لكي تنسب أية حركة اليوم نفسها إليها، قاصدا إضرابات ومظاهرات النقابات، والطلبة اليوم، الساعية لبقاء الأمور على حالها؛ وفي الوقت نفسه يرد الكاتب على سركوزي، الذي قال في خطاب له قبل عام لنقد انتهت عقلية 1968، وثقافتها السياسية، وإن الوقت قد حان لفرض النظام، والقانونquot;. الكاتب يرد بأن الشعارات الفوضوية غير العملية لم تكن هي محور الحركة، بل كانت لكسر محرمات اجتماعية وثقافية موروثة.
مهما يكن، فإن تلك الحركة أثرت حتى على الحكام، والعمل السياسي، فصارت الحكومات أكثر مرونة وحركة.
يقول الكاتب سيرج شومان في مقالة في صحيفة quot;هيرالد تريبيون الأمريكية، إنه في موسم المناسبات، وهبوط شعبية سركوزي، فقد يتذكر بثقة نتيجة الانتفاضة سياسيا، بعودة ديجول للحكم، والتفاف الشعب من حوله، خصوصا ولم تمض من ولاية سركوزي غير سنة واحدة، وإن التقييم النهائي هو عام 2012، أي لحصيلة الولاية.
هكذا، نجد أن النظرات لحركة 1968 تختلف، ولكن ذلك لا يعني أنها لم تترك أثرها الكبير في فرنسا، وفي العالم، وقد نشر كاتب أمريكي بالمناسبة مقالا تحت عنوان quot; العام الذي غير العالمquot;، وهو يعد الانتفاضة من بين تلك الأحداث الكبيرة التي تركت بصماتها على الأحداث التالية؛ وعن سركوزي، يقول الوزير الاشتراكي السابق، كلود أليغر، إنه يختلف مع سركوزي في أمور عديدة، ولكنه يعتبره أول رئيس وزراء فرنسي جاء بجدول إصلاحات هامة، ويمتلك إرادة التغيير، ويضيف أنه إذا لم تصلح فرنسا نفسها، فالأرجح أن تتحول بعد عشر سنوات لدولة من الدول النامية!