بين عامي 1938 و1945، كان عبد الرحمن بدوي عضوا في حزب quot; مصر الفتاة quot; رئيسا لمكتب الشؤون الخارجية بالحزب، ومحررا للمقالات السياسية من الناحية النظرية. فقد نشر سلسلة بعنوان quot; خلاصة الفكر الأوروبي quot; دشنها بكتابه عن quot; نيتشه quot; عام 1939. وقد لصقت تهمة الفاشية ثم النازية بهذا الحزب منذ بدايته، ولكن اتباعه لم يروا في ذلك تهمة بل مجدا. وكانت الفاشية عرفت للمصريين ndash; حسب لويس عوض في سيرته الذاتية quot; أوراق العمر quot; ndash; عام 1923 من خلال الصحف واستعراضات القمصان السود التي كان يقوم بها الرعايا الايطاليون في شوارع القاهرة والاسكندرية.
كانت هناك أولا بعض الشعارات والرموز المنقولة حرفيا من التجربة الفاشية ndash; النازية مثل شعار: quot; مصر فوق الجميع quot; الذي كان ترجمة حرفية للشعار النازي quot; ألمانيا فوق الجميع quot; ومع هذه الشعارات رمز القميص الملون. وفي عام 1936 أصدر أحمد حسين رئيس الحزب كتابه quot; إيماني quot; علي غرار كتاب هتلر الشهير quot; كفاحي quot;، وكتب في جريدة quot; مصر الفتاة quot;: quot; أن شبيبة مصر الفتاة تعتقد أن الدوتشي هو منشئ قواعد السياسة الجديدة في هذا العصر ( عدد أغسطس 1938 ) وأننا سنثبت جدارتنا بالسير ببلادنا في هذا الطريق الذي سلكه من قبل هتلر وموسوليني quot;.
يقول أحمد حسين في سلسلة مقالاته عن موسوليني: quot; الفاشية تستنكر الاشتراكية والديموقراطية والمذاهب الحرة quot; ( عدد 21 يوليو 1938 ). ويؤكد محمد صبيح: quot; ان البلاد تريد كرامة لا دستورا، وتريد ثروة لا برلمانا، وتريد صحة لا نوابا وشيوخا، وتريد جيشا ودفاعا لا خطبا وتصفيقا quot; ( عدد 8 ديسمبر 1938 ).
وعروف عن صبيح انه كان صاحب موهبة قيادية فذة، إذ انه جند quot; جمال عبد الناصر quot; الفتي، وكان مسؤوله في الاسكندرية، ويفسر ذلك جزئيا ان عبد الرحمن بدوي لم يكن مناهضا بفكره لثورة 23 يوليو 1952 ( التي كانت تضم أجنحة متباينة من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار )، وباعتباره تلميذا بارا لصاحب quot; المعذبون في الأرض quot; الدكتور طه حسين، لم يناهض الاصلاح الاجتماعي، فقد ظل ضمن هيئة التدريس بالجامعة المصرية مذ قيام الثورة وحتي مغادرته مصر، كما اختارته الثورة ضمن من اختارتهم من المثقفين لوضع الدستور المصري، حيث كان من اعضاء لجنة الدستور، علي الرغم من انه ليس من رجال القانون، كذلك اختارته الثورة مستشارا ثقافيا لمصر في سويسرا عام 1956.
بيد انه بين رئاسة بدوي لمكتب الشؤون الخارجية لحزب quot; مصر الفتاة quot; وتعيينه مستشارا ثقافيا لمصر في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين جرت مياها كثيرا وتحولات عميقة أبرزها: نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة هتلر، انقسام العالم إلي معسكرين كبيرين، ظهور الاستقطاب الايديولوجي والحرب الباردة، زرع اسرائيل في قلب العالم العربي، ظهور حركات التحرر والاستقلال في العالم الثالث، ثورة يوليو 1952.
أما الصيغ الفكرية التي كانت مطروحة آنذاك، فقد تمثلت (عمليا ) في صيغتين أساسيتين ndash; وهاتان الصيغتان كانتا موجودتين أصلا منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولم تكن التحولات العميقة التي أشرنا إليها سوي تكريس وتدعيم لهما معا.
الصيغة الأولي عرفت بالتوفيقية، أما الصيغة الثانية فهي الإبنة الشرعية للأولي، وهي صيغةquot;إما.... أوquot;. ونستطيع أن نردquot;التوفيقيةquot;وما يتفرع عنها من مسميات مثلquot;الوسطيةquot;وquot;التعادليةquot;وquot;الاتزانquot;.. وغيرها، إلي ما قرره الإمام محمد عبده، قبل أكثر من قرن، إذ قال:quot;ظهر الإسلام لا روحيا مجردا، ولا جسدانيا جامدا، بل انسانيا وسطا بين ذلك، آخذا من كل القبيلين بنصيب، ثم لم يكن من أصوله (أن يدع ما لقيصر لقيصر ) بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر علي ماله ويأخذه علي يده في عملهquot;. (الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، ط3، دار الهلال 1959، ص ndash; 95. )
غير أن هذه التوفيقية لم تكن ndash; في التحليل الأخير ndash; توفيقا متوازنا أو متكافئا بين طرفين، وإنما كانت في حقيقتها، انحيازا وتغليبا وترجيحا لطرف علي حساب الطرف الآخر، وإخفاء هذا الانحياز والترجيح خلف قناع توفيقي ظاهري، ناهيك عن التوتر الخفي الذي ظل كامنا داخل الصيغة التوفيقية، حتي حانت الفرصة، وبرز في العلن ذلك الانشطار الحاد بين عنصري المعادلة.
وظهر ذلك مبكرا في صورة تيارين متعارضين انشقت عنهما توفيقيةquot;الإمامquot;علي أيدي تلامذته، فسار الشيخ رشيد رضا في اتجاه سلفي حنبلي النزعة، وسار لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين في اتجاه ليبرالي علماني.
وتبلور هذا الانشطار أخيرا في صورة المواجهة الحادة منذ أوائل سبعينيات (القرن العشرين ) بين التيارات الإسلامية وأنصار المشروع العلماني. (أنظر الدراسة الرائدة للدكتور محمد جابر الأنصاري: الفكر العربي وصراع الأضداد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1996 ).
بيد أن التكوين الفلسفي ndash; السياسي لعبد الرحمن بدوي فضلا عن عدائه المحكم للإمام، دفعه إلي رفض الصيغتين معا، ومن ثم كان لابد من البحث عن مخرج: لا هو توفيقي، ولا هو (إما... أو ). وهنا بالتحديد يكمن المأزق الحقيقي الذي تعرض له بدوي في منتصف القرن العشرين. ففي ظل الاستقطاب الإيديولوجي العالمي، اضطرت الثورة لضرورات سياسية وعمليه، إلي اللعب باليسار واليمين معا، وشيئا فشيئا اصبح مشروع بدوي الفكري خارج حدود اللعب والملعب، ليس في مصر وحدها وإنما في بيروت وطهران وليبيا، حتي فرنسا منفاه الاختياري، حيث اصطدم مع جامعة السوربون.
يقول مراد وهبه في كتابه quot; ملاك الحقيقة المطلقة quot;: quot; لقد توقف بدوي عن استكمال مذهبه في quot; الزمان الوجودي quot; بخاصة منطقه الجديد الذي سماه بquot; منطق التوتر quot;، كذلك لم يستكمل quot; تاريخ الإلحاد في الإسلام quot;، ويسأل لماذا توقف؟ ويجيب: لأن الاستكمال معناه الانتقال من البحث في الوجود العام الي البحث في وجود الانسان، بيد ان ذلك ليس ممكنا بسبب ان نقطة البداية هي الوجود العام وهو مبحث يعزل نفسه عن هذه العلاقة الضرورية بين الانسان والكون. بل ان فلسفة بدوي تخلو من نظرية للمعرفة وتدور حول الانطولوجيا. فهو يبدأ من الوجود العام ثم ينتقل الي وجود الذات، ولكن هذه الذات في نسبة مع نفسها، ولا تشعر بذاتها إلا من حيث هي ارادة وليس من حيث هي فكر، ويتعامل مع الذوات الأخري علي انها أدوات مهيأه لخدمتها، واذا كان ذلك كذلك فالذات معزولة، وبالتالي فإنها ليست صالحة لتأسيس فلسفة للإنسان quot;.
هكذا انتهي بدوي الي حالة من العزلة والعداء مع الكل وللكل، كما في quot; سيرته الذاتية quot;، والاحباط الشديد بسبب انصراف الجمهور والنقاد عن كتاباته الأخيرة.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]