حقيقة أن السياسة هي فصل الممكن وحده، عن خضم الأماني والتطلعات والادعاءات، والتي يدخل تحقق بعضها ضمن دائرة المستحيل، ثم العمل على وضع ذلك الممكن موضع التحقق العملي .. وحقيقة أيضاً أن السياسة لا تشيد واقعاً جديداً، ليحل محل واقع آخر مستهجن أو مرفوض، ما لم يكن لذلك الواقع المستهدف مقوماته المادية على أرض الواقع، فالمجهودات السياسية بمثابة السعي للوصول إلى المحطة التي تشير إليها وتدفع نحوها القوى الفاعلة على الأرض، باختلاف قدراتها وتوجهاتها.
نعم أي مجهودات سياسية تتجاهل هذا، وتسعى عكس اتجاهه، لا تكون سياسة رشيدة، وإنما مجرد ضياع وتبعثر في عالم من الأحلام أو المثاليات، وربما كانت أشبه بضرب الرؤوس في جدار عند نهاية طريق مسدود.
على ضوء هذا كان تقييمنا وترفقنا بقيادات تحالف 14 آذار، في موقفهم إزاء ما يسمى بسلاح المقاومة، خاصة في المرحلة التالية لانزياح الكابوس السوري من على كاهل لبنان، فجميعنا يعرف أن ما يدعيه الحزب الإلهي من مقاومة، لا علاقة له ابتداء بالوطن اللبناني وهموم أهله ولا بسيادته، وإنما هو على أحسن الفروض جزء من العداء الأبدي الكارثي بين ما يسمى بالأمة العربية وإسرائيل، وفي أسوأها مجرد ذراع إيرانية بالمنطقة، تستخدمها للهيمنة على شعوب المنطقة ودولها، وتوظفها في نفس الوقت في لعبة القط والفأر مع الولايات المتحدة الأمريكية.
كما نعرف جميعاً أن الأخطر في الحزب الإلهي وسلاحه هو إرهاب الديموقراطية اللبنانية تمهيداً لاغتيالها، وأن مسألة مزارع شبعا ليست أكثر مما نعرفه بمسمار جحا، وهي لا تعدو أن تكون ورقة توت شفافة لا تستر عورة.
ومع ذلك كنا ونحن نرى رموز الحرية في لبنان يتجنبون وضع النقط على الحروف، ويقبلون تسمية سلاح الإرهاب بمسمى مزيف، يتستر خلف تابو المقاومة، كنا نلتمس لهم العذر، فتحت تأثير الذكريات المريرة للحرب الأهلية اللبنانية، وخضوعاً لمعايير موازين القوى في الساحة، سواء المحلية أو الإقليمية، تجنب هؤلاء المواجهة الصريحة والحازمة مع حزب الله، وأقنعوا أنفسهم بأن الحوار مع منظمة إرهابية كفيل بالوصول معها إلى تسوية، تسلم بمقتضاها سلاحها إلى الدولة والشرعية، رغم أن المفوض بالتحدث باسم الإله يردد في جسارة وتبجح أن اليد التي تمتد إلى سلاحه ستقطع، الرجل صريح وواضح كما يليق بقاطع طريق، لكن أصحابنا في جماعة 14 آذار لا يملكون عملياً غير عمل أذن من طين وأذن من عجين إزاء مثل تلك التصريحات، والاستمرار في الوهم أو التوهم أن الحوار مع مثل هؤلاء يمكن أن يؤدي إلى أي نتيجة، ولسان حالهم يقول: ما باليد حيلة.
هكذا فتحوا عباءة الشرعية لتسع عصابة مدججة بالسلاح وبأيديولوجيا القتل والعداء والتخلف الحضاري، وتنتحل فوق هذا لفظ الجلالة لتجعل منه اسماً ووصفاً لتشكيلها العصابي، فماذا كانت نتيجة المداراة والخنوع والخضوع لواقع الحال، أو ماذا كانت نتيجة التعامل مع ذلك التشكيل المسلح، كما لو كان حزباً سياسياً وطنياً بحق، وديموقراطياً بالحقيقة، بحيث يفيد الحوار في الوصول معه إلى بوابة الشرعية والدستورية، وكما لو كان فعلاً يضع لبنان الوطن والناس نصب عينية المغمومتين بالسواد؟
لم نر للحوارات مسدودة المنافذ حول سلاح تلك العصابة من نتيجة غير منحها الشرعية، حين أقر مجلس الوزراء بعد الانتخابات النيابية بشرعية ما يسمى مقاومة، وهو ما لابد أن ينعكس شرعية وتقديساً لسلاح تلك المقاومة المزعومة، في سابقة ربما كانت لا نظير لها في العالم أجمع، أن يكون لدولة مستقلة جيشاً ضعيفاً شكلياً، بجانبه عصابة طائفية وأيديولوجية مدججة بالسلاح، لها توجهاتها الخاصة، وأجندتها وعداواتها المقدسة، والمنفصلة تماماً عن سيطرة الدولة، وعن مصالح الوطن اللبناني وأهله.
تعللاً بهذه الشرعية المتحصلة بالابتزاز يقترف حسن نصر الله جريمته في حق لبنان في صيف 2006، والتي اعتبرها نصراً إلهياً، مدعياً حقه في اتخاذ قرار منفرد بمعركة تخص المقاومة وحدها، مادام مجلس الوزراء والجميع قد أقروا بخصوصية وشرعية كيان المقاومة المستقل . . الرجل محق بكل تأكيد، حتى لو كان قد غافل هؤلاء الغافلون رغماً عن أنوفهم، أو من تحت أنوفهم!!
هكذا لا يسأل حزب الله وحده عما حاق بلبنان في صيف 2006، وإنما يشاركه المسئولية أصحاب نهج الموائمة السياسية، الذين يدخلون بلبنان وبشرعية وسيادة دولته إلى منزلق من التنازلات بلا نهاية، تتقزم من خلاله الدولة على الأرض، لحساب طرف اتخذ من الابتزاز حرفة يحقق بها مشروعة، الذي لا يفصح عن معالمه النهائية إلا لماماً.
وهكذا أيضاً يستمر المسلسل في أجواء البخور الذي يحرق لصنم المقاومة وسلاحها، فيعيد الحزب الإلهي تنظيم صفوفه بعد الحرب، ومضاعفة تسليحه، ليتقدم خطوات أخرى على طريق أن يصير هو الدولة الحقيقية، من تحت عباءة الدولة الرسمية الكرتونية، التي لا تمتلك سوى القيام بدور المحلل، ودور المفعول به، الذي يتسول مجرد البقاء الشكلي، أو السلام وعدم استخدام العنف من قبل الفاعل الأوحد، صاحب السلاح والأيديولوجيا الإلهية المقدسة، فتكون هناك شبكة اتصالات وتجسس إلهية، يجري من خلالها جنود الله اتصالاتهم المقدسة،، لمزيد من إحكام سيطرتهم على مقدرات حياة وبقاء سادتنا أصحاب الموائمات السياسية، ولإحكام سيطرتهم على لبنان الوطن، المشلولة عاصمته منذ أكثر من عام، باعتصام يقنعون أنفسهم أنه من قبيل العصيان أو الاحتجاج المدني السلمي، مغمضين عيونهم ndash;طوعاً أو قسراً- على حقيقة أنه اعتصام بلطجة عسكرية، تعجز أو تجبن أجهزة الأمن عن الاقتراب منه وفضه، لاستناده إلى السلاح الإلهي المخصص لمواجهة إسرائيل، فيما فوهات بنادقه مصوبة إلى قلب بيروت!!
وعندما يتراءى للإرهاب أن يكشف عن جزء من وجهه القبيح، فيعمل في بيروت قتلاً وحرقاً، لا تجد الدولة ممثلة في الأكثرية النيابية غير أن تذهب صاغرة إلى قطر، لتذعن لكل إملاءات العصابة المقدسة، تسولاً لسلام هزيل، ولانتخاب رئيس جمهورية، يعرف أنه لن يمتلك والحالة هذه من أمر نفسه، ربما حتى نوعية وجباته اليومية الثلاث، ولا يكفي ولو حفظاً لماء الوجه مجرد همس خجول عن ضرورة بحث مستقبل quot;سلاح المقاومة الإلهيةquot; بعد ذلك.
هل نتوقع أن يتوقف مسلسل التنازلات عند هذا الحد؟
بالطبع من المستحيل حدوث هذا، فهاهو المفوض الإلهي يخرج علينا مرة أخرى بطلعته البهية، ليشترط أن يقر مجلس الوزراء المنتظر ما يفيد دعمه للمقاومة وسلاحها!!
الرجل ثابت الجنان والخطى، يعرف جيداً ما يريد، ويجمع لنفسه مقومات تحقيقه، ليتقدم باستمرار ببطء ولكن بثبات، والآخرون لا يعرفون ولا يفعلون إلا التراجع أمامه.
لا يريدون حرباً أهلية لبنانية، ونحن معهم في هذا.
ولا يملكون حالياً غير الانتظار والتراجع المستمر وبأقصى ما يستطيعون من بطء، ونحن لا نزعم امتلاكهم حالياً غير هذا.
ليتبقى سؤال وحيد معلقاً فوق الرؤوس:
إلى متى يمكن أن يستمر الأمر على هذا الحال، وإلى أين يمكن أن يصل بلبنان؟!!
[email protected]