ملائكيَّة التابوت
لم يسلم تابوت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من التحليق في عالم الغريب، الإعجاز بلغة اللاهوت، ولم تكن معجزة واحدة تكفي، بل معاجزتان على أقل تقدير كما يفهم من الروايات الواردة في الباب!
الغريب الأول: إن التابوت كان محمولا ملائكيا فإذا ما حُمِل من الخلف تكفلت ملائكة السلام أمامه، والعكس بالعكس،، فهو تابوت ملائكي إذن.
الغريب الثاني: إن هذا التابوت يعرف مكانه! تماما كما كانت ناقة النبي تعرف مكانها يوم هاجر الى المدينة!
يروي المجسي عن فرحة الغري: (محمد بن أحمد بن داود القمي،عن محمّد بن علي بن الفضل، عن علي بن الحسين بن يعقوب، عن جعفر بن أحمد بن يوسف، عن علي بن بدرج الجاحظ، عن عمرو بن اليسع، قال: جاءني سعد الأسكاف فقال: يا بني تحمل الحديث ؟ قلت: نعم، فقال: حدّثني أبو عبد الله عليه السلام قال: لما أُصيب أ مير المؤمنين عليه السلام قال للحسن والحسين عليهما السلام، غسّلاني وحنّطاني واحملاني على سريري، واحملا مؤخره تكفيان مقدّمه، وفي رواية الكليني عن علي بن محمّد رفعه قال: قال أبو عبد الله عليه ا لسلام لمّا غُسِل أمير المؤمنين عليه السلام نودوا من جانب البيت: إن أ خذتم مقدّم السرير كُفيتم مؤخّره، وإن أخذتم مؤخّره كُفيتم مقدَّمه...) / البحار 42 ص 214 /
إن سند الرواية يعاني من ضعف، فإن (عمرو بن اليسع) هذا لم يوثّق / معجم الخوئي 13 رقم 9008 / كما أ ن (علي بن الحسين بن يعقوب) هو الآخر لم يوثّق (معجم الخوئي 11 رقم 8066 /، وسعد ا لإسكاف ورد فيه تقييم النجاشي بأنه (يعرف وينكر) وتفسير ذلك عند السيد الخوئي بان المراد من ذلك (قد يروي ما لا تقبله العقول العادية المتعارفة وهذا لا ينا في الوثاقة / المعجم رقم 5043 /)!، وقد ور د عنه أنه قصاص!
في سند الرواية أسم غريب، هو (علي بن بدرج الجاحظ)، لكن يبدو أنه تصحيف للراوية (علي بن بزرج الخياط)، وهو في نفس الوقت (علي بن أبي صالح)، والرجل من الغلاة، فقد قال فيه النجاشي (... علي بن أبي صالح واسم ابي صا لح محمّد، يلقب بزرج، يكنى أبا الحسن، حنّاط، ولم يكن بذاك في المذهب والحديث وإلى الضعف ما هو...) / النجاشي رقم 675 من الطبعة الحديثة /فهذه الرواية من صنع الكذابين كما يبدو...
هذه الرواية نقرأها في البحار عن ذات المصدر، أي (فرحة الغري)، إذ جاء فيه (فرحة الغري: ذكر جعفر بن مبشّر في كتابه في نسخة عتيقة عندي ما صورته: قال: قال المدائني: عن أبي زكريا،عن أبي بكر الهمداني،عن الحسين بن علوان، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، وعبد الله بن محمّد، عن عليّ بن اليماني، عن أبي حمزة الثمالي، عن أ بي جعفر محمّد بن علي، والقاسم بن محمّد المقريّ، عن عبد الله بن زيد،عن المعافا بن عبد السلام، عن أبي عبيد الله الجدلي، قال: أستنفر علي بن أبي طالب عليه السلام الناس في قتال معاوية في الصيف، وذكر الحديث مطوّلا، وقال في آخره أبو عبد الله الجدلي: وقد حضره وهو يوصي الحسن قال: يا بنيّ إنّي ميّت من ليلتي هذه، فإذا متُّ فاغسلني... ولا يقربن أحد منكم مقدّم السرير، فإنّكم تكفونه، فإذ حُمِل المقدّم فاحملوا المؤخّر، وليتبع المؤخر المقدّم حيث ذهب، فإذا وضع المقدّم فضعوا المؤخّر، وليتّبع المؤخر المقدّم حيث ذهب...) / المصدر ص 215 من فرحة الغري /
والكتاب وصل إلى المجلسي وجادة كما ينص على ذلك صراحة!
يرويها كذلك صاحب فرحة الغري عن: (... إسماعيل بن عليّ بن قدامة، عن أحمد بن علي بن ناصح، عن جعفر بن محمّد الأزمني، عن موسى بن سنان الجرجانيّ، عن أ حمد بن عليّ المقريّ، عن أم كلثوم بنت علي عليه السلام، قا لت: آخر عهد أبي إلى أخويّ عليهما السلام، أن قال: يا بنيّ... وسجيّأني على سريري، ثم انظرا حتى إذا ارتفع لكما مقدّم السرير فاحملا مؤخّره، قال: فخرجت أشيع جنازة أبي، حتّآ إذا كنّا بظهر الغري، ركن المقدّم فوضعنا المؤخّر...) / المصدر ص 216 نقلا عن فرحة الغري /
يروي ذلك صاحب فرحة الغري بطريق (... علي بن طاووس، عن محمّد بن عبد الله بن زهرة،عن محمّد بن الحسن العلوي، عن القطت الراوندي، عن ذي الفقار بن سعيد، عن المفيد محمّد بن النعمان...) ويحكي ذات الحكاية / المصدر 217 عن فرحة الغري /
هذه الروايات كلها تشترك في نقطة ضعف قاتلة، فإنها جميعا عن صاحب كتاب (فرحة الغري) وبا لتالي، هي أخبار أحاد!
غيبيّة اللِّحد
اللحد هو الأخر غيبي النكهة والاصل! (فإذا صليّت علي يا حسن فنحِّ السرير عن موضعه، ثم أكشف التر اب عنه،فترى قبرا محفورا ولحدا مثقوبا وساجة منقوبة، فأضجعني فيها..). وفي رواية أخرى (... فإنكما تنتهيان إلى قبر محفور،ولحد ملحود، ولبن محفوظ)، وكلا الروايتين في (فرحة الغري)، ولكن نقرا في الكتاب ذاته كما ينقل المجلسي في بحار الأنوار ما نصه (فإذا صليت فخط حول سريري، ثم أحفر لي قبراً في موضعه إلى منتهى كذا وكذا، ثم شق لي لحدا، فإنك تقع على ساجة منقورة إدّخرها ليّ أبي نوح...).
تتواصل عملية تصعيد (غيبيَّة) اللحد العلوي، فنقرأ (ثم إيتيا ـ الكلام للحسن والحسين عليهما السلام ــ الغريين، فإذا صخرة بيضاء تلمع نورا، فاحتفرنا فإذا ساجة مكتوب عليها: ما ادّخر نوح عليه السلام لعلي بن أبي طالب عليه السلام، فدّفناه فيها وانصرفنا ونحن مسرورون بإكرام الله تعالى لأمير المؤمنين)، وفي رواية أخرى (ثم برز الحسن عليه السلام بالبردة ا لتي نشف بها ر سول الله صلى الله عليه وآله وفاطمة وأمير المؤمنين عليه السلا م، ثمّ أخذ المعول فضرب ضربة فأنشق القبر عن ضريح، فإذا هو ساجة مكتوب عليها سطران بالسريانية: بسم الله الرحمن الرحيم،هذا قبر نوح ال نبي لعليّ وصيّ محمّد قبل الطوفان بسبع مائة سنة...) / راجع البحار 42 ص 215، 216، 217 /
كلها روايات احاد!
الطيران الميتافيزي
تقول الروايات السابقة: (... فإذا الخروج من قبري فافتقدني فإنّك لا تجدني، وإنّي لاحق بجدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعلم يا بني ما من نبي يموت وإن كان مدفونا بالمشرق ويموت وصيّه بالمغرب إلاّ ويجمع الله عزّ وجل بين روحيهما وجسديهما، ثم يفترقان فيرجع كل واحد منهما إلى موضع قبره، وإلى موضعه الذي حطّ فيه) / البحار 42 ص 292 /
القبر المؤقت
القبر الاول الذي كان قد حفر مسبقا بإيد غيبية كان مؤقتا كما يبدو، ففي الرواية (... ثم يابني بعد ذلك إذا أصبح الصباح أخرجوا تابوتاً إلى ظهر الكوفة، على ناقة، وأمربمن يسيّرها بما عليها، كأنها تريد المدينة، بحيث تخفى على العامّة، موضع قبري الذي تضعني فيه، وكأني بكم قد خرجت عليكم الفتن من هنا وهاهنا، فعليكم بالصبر فهو محمود العاقبة)/البحار 42 ص 292 /
كل (معجز) هنا له دلالته السياسية المبطنة، وأمير المؤمنين علي عليه السلام لا يحتاجها،، فإن كون القبر يعرف مكانه، يذكّرنا بناقة النبي وهي تدخل المدينة، حيث يقول كتاب السيرة، أن النبي قال للمسلمين، دعوها، إنّها مأمورة، تقف عند المكان المعين لها من السماء!
تابوت علي عليه السلام هنا يعادل موضوعيا ناقة النبي هناك، كرامة ناقة النبي يجب أن تنسحب على تابوت علي، وإن كنت لا اصدق حتى بتلك الكرامة النبوية المزعومة، أقصد كرامة ناقته!
فن رائع هذا الذي ينسج التماهي بين تابوت علي وناقة محمد، فهما صنوان في كل شي، متساويان في كل كرا مة!
اللحد المُعد سلفا لا يخلو من رمزية تدل على كرامة، أو هي معجزة في سياق إيرادها، فكثيرا ما نقرا عن قبور معدّة سلفا للصالحين، ليس بجهد بشري، وإنما يجهد غير زمني، وإن تربة هذه القبور ذات نكهة ذكية!
أما الانتقال ـ إنتقال روح الميت، روح علي الزكية ــ من اللحد في الكوفة أ و أحد ضوحيها إلى قبر رسول الله في المدينة، فواضح أنها عملية تعويض في ذهن ناسجي الصورة عن عدم دفن الإمام جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنها عملية تريد تفويت إنحصار الكرامة بغيره من الأصحاب ـ وهي لا تفيد أي كرامة في تصوري البسيط ــ الذين دفنوا إلى جانبه، فمن أجل التعادل جاءت هذه المعجزة الكبيرة، فعلي عليه السلام بدل أن يدفن جدثه الطاهر إلى صف النبي الكريم كما هوجدث أبي بكر وعمر، زاره، عبر مسافات طويلة، وهناك أجتمع معه روحيا، وإن لم يجتمع معه في اللحد جسديا! ولحن اللغة يفيد ان عليا دخل عليه في قبره، فيما الا خرون مجرد قبر إلى جانب قبر، أمّا في حالة علي فهناك روحان في قبر واحد، ألتقيا بعد سنوات من الفراق، وكان لقاؤهما أعجازيا!
حقا إن الذي يهون الخطب كون هذه الروايات ضعيفة...
أمة هذه ثقافتها
تحتل هذه الثقافة المهلهلة ساحة الفكر الديني بشكل عام، وأصحابها يتقدمون صفوفا أمامية في التأ ثير على الجمهور العربي، خاصة الشيعي منه، وتحولت إلى مجال ارتزاق بشع، وسيطرة وجدانية على ضمائر الناس، وفيهم أصحاب اختصاصات علمية متقدمة! ولا أشك أن بعض مروجي هذه الثقافة قد لا يؤمنون بحصيلتها النهائية، ولكنها وسيلة قوة وسيطرة وتمكن ووجاهة، وربما هناك جهات منتفعة، ومغرضة لسبب وآخر تشجع عليها، وتوفر لها ممكنات النشر وا لانتشار، من منابر ومطابع ومرغبات، فمثل هذه الثقافة تجمد الفكر، وتزج الإنسان في غيبوبة ا لكسل الذهني، وتطعل الطاقات، وتصرف الجهد باتجاه غيب قاتل، مدمر، لا يمت إلى غيب العقل الواعي النشط.