بادئ ذي بدأ أقول لقراء مقالاتي إنني أرجو أن لا تؤثر أزمتي الصحية الراهنة على قدرتي على مواصلة الكتابة ولحسن الحظ أنني في بلد كفرنسا، حيث العناية الطبية الفائقة، التي يفتقر لقدر بسيط، وبسيط منها، أهلنا في العراق، وعدد كبير من عائلات اللاجئين العراقيين في الأردن، وسوريا. مهما يكن، فالإنسان على قدر طاقته، ومهما كانت متاعب بعضنا هنا فهي تتضاءل أمام حجم معاناة أهلنا في العراق، من انهيار النظام الصحي، وغياب الكهرباء، وهجمة الغبار الأصفر. ألا، كم أحزان أهلنا في الوطن المستباح!

بالعودة لعنوان المقال، فقد وقعت في الأسبوع المنصرم سلسلة من أحداث دولية، وإقليمية، وعربية، هامة ليس هنا مجال تناولها جميعا، بل اخترت ثلاث حالات، يجمعها العامل الديني. تاركا مثلا فوز براكة أوباما على هيلاري كلينتون رغم كونها أكثر تجربة، ومراسا سياسيا، وبجانبها زوج كان رئيساً، وله خبرة غزيرة؟ هذا موضوع كبير، لاشك أنه سيكون محورا دائما لتعليقات وتحليلات المراقبين المختصين، سواء اليوم، أو طوال الحملة الأمريكية الانتخابية الساخنة بين المرشحين الجمهوري والديمقراطي. أقول هنا على الهامش إنني أرى أن فوز ماكين هو الذي يخدم العراق،والمنطقة، كما ويخدم أمريكا والأمن الدولي. أترك هذا الموضوع الآن لأهل الاختصاص والمطلعين بدقة على دهاليز السياسة الأمريكية، ويبقى مجال التعليق واسعا بعد ذاك.

1 - في تركيا
أما الحالة الأولى من الثلاث التي يتناولها هذا المقال، فهو قرار المحكمة الدستورية التركية بإلغاء قرار رفع الحظر عن لبس الحجاب في الجامعات، الذي اتخذ مؤخرا، والذي يلغي واحدا من أركان علمانية أتاتورك. صحيح أن علمانيته ناقصة بسبب استمرار الموقف السلبي من الأقليات القومية، ولكن إصلاح أتاتورك كان ثورة حقيقية على صعيد المنطقة كلها، وزلزالا اهتزت له كل تراكمات التخلف، والتزمت الديني، واحتقار المرأة.
إن الحزب الإسلامي الحاكم، ورغم كونه يمثل الإسلام السياسي المعتدل، والتفتح، ورغم اعترافه الرسمي بعلمانية أتاتورك، يجمعه، رغم ذلك، بالأحزاب الإسلامية الأخرى خارج تركيا الاعتقاد بأن قيام نظام إسلامي قائم على تطبيق أحكام الشريعة هو الطريق الوحيد لخدمة الشعب التركي. لقد وجدنا أن أحزاب الإسلام السياسي ما أن تأخذ السلطة حتى تعمل على قيام نظام إسلامي قائما على أحكام الشريعة، سواء بدفعة واحدة، أو تدريجيا، وذلك حسب الظروف والأوضاع، فللأحزاب الإسلامية جميعها لغتان وخطابان المعلن والمضمر. إننا نعلم أن في تركيا تيارات وقوى علمانية يعتد بها، ومنها الجيش الذي يحرس علمانية أتاتورك، وهذا ما يأخذ، الحزب الحاكم بالاعتبار، فيتصرف بكل حذر ودقة، لاسيما وتركيا مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي.

2 - في فرنسا
الحالة الثانية جرت هنا، في فرنسا، حيث اتخذت محكمة مدينة ليون بإبطال زواج مسلمة ومسلم بحجة أن الزوج وجدها غير عذراء ولم تكن قد صارحته بذلك من قبل. اتخذ القرار وفقا لقانون يجيز الطلاق إذا تبين أن أحد الزوجين كذب على الآخر قبل الزواج. هذه حيثيات الحكم، في حين أن ما كان يقصده المشرع لم تكن العذرية بتاتا، فهذه 'القيمة' تركتها فرنسا، وكل الدول الديمقراطية وراءها منذ قرون وقرون، لتبقى القيمة الأساسية في المجتمعات الإسلامية وبين قبائل البدو. إن ما كان المشرع الفرنسي يقصده هو، مثلا، إخفاء أحد الزوجين سجلا إجراميا سابقا له، أو الإصابة بمرض معد، أو انتحال مركز اجتماعي وهمي، ألخ، علما بأن غالبية زواج النساء في الغرب تتم بعد أن تكون المرأة قد عاشرت صديقا أو أكثر. يضاف لذلك مئات الآلاف من ضحايا الاغتصاب في العالم، فهنا لا يقوم الأب أو العم، أو الأخ بذبح الضحية، بل يحترمون مصابها، ولن يحول ذلك عن زواجها.

إن ما صدم الفرنسيين بوجه خاص هو نص قرار المحكمة الذي يصف عذرية المرأة بـ'الركن الأساسي'، أو الخاصية 'الأساسية'، للمرأة، وهذا ما يمكن أن يقول به قاض مسلم شرعي، لا قاض في دولة علمانية تجعل مساواة الجنسين عمودا من أعمدة نظامها العلماني الديمقراطي، فلا عجب، أن صدم اليسار، والوسط،، والحزب الحاكم، وحتى أقصى اليمين، والتنظيمات النسائية، الفرنسية والعربية في فرنسا على هذا القرار المتفق مع عقلية 'غسل العار'. وقد جرت مظاهرات احتجاجية في مدن فرنسا، وبحسب التقارير الصحفية فقد طغت المسألة عند الفرنسيين حتى على مشاكلهم الكبرى، كصعود الأسعار. لكن، كيف أمكن لقاض فرنسي اتخاذ قرار كهذا، وبهذه الصيغة؟ قرار يقحم المعتقدات الدينية في شؤون الزواج، وقوانين الأحوال الشخصية؟ لم تتردد كثرة من التعليقات الفرنسية المنشورة في القول بأن القرار لا يقصد به غير ترضية ومسايرة الدين الإسلامي، والمسلمين في فرنسا، وهو ما سيزيد من قلق الفرنسيين من ضغوط الاتحادات، والجمعيات الإسلامية، كما يمكن أن يسهم في تغذية العنصرية.

3 - العراق
أما الحالة الثالثة، والتي تخصنا مباشرة، فهي في العراق بمناسبة صدور تصريحات وفتاوى سياسية جديدة نسبت للمرجع الشيعي الأعلى، وهذه المرة عن المعاهدة الأمنية العراقية ـ الأمريكية.
إحدى ما يشبه الفتوى المنسوبة للسيد السيستاني وضعه مبادئ وشروط لما يجب أن تكون عليه المعاهدة التي لم تنشر بعد. إن ما ورد من مبادئ سليمة ومعقولة، ولكن ليست هذه هي المشكلة التي نعنيها. المشكلة أولا: هل إن السيستاني يدلي حقا بكل هذه الفتاوى السياسية الصرفة والمتتالية منذ سقوط صدام؟ لا نعتقد ذلك، فما نظنه أن المحيطين بالسيد، هم الذين يدلون بتصريحات من عندهم وينسوبا له بما يرضي الأحزاب الشيعية، إذ لم نجد تصريحا واحداً منها بتوقيعه، أو بصوته، وقد كان لزاما أن يظهر على الناطقين باسمه مثل هذه الممارسة. ثانيا حتى لو صدقنا صحة ما ينسب له، فالمعضلة الكبرى هي هذا الإصرار من الأحزاب الإسلامية على إقحام اسم المرجع الديني الأعلى للشيعة في تفاصيل العمل السياسي العراقي، وهو ميدان يخص الساسة لا رجال الدين، وقد سبق أن نشر كتاب عراقيون وعرب عشرات المقالات والدراسات عن مخاطر زج السياسة في الدين لما يكون عليه من ضرر حتى على الدين نفسه ورجاله. الدين كما بين جميعهم قيمة سماوية ثابتة والسياسة اجتهادات أحزاب وأشخاص قد يصيبون وقد يخطئون، وللسياسة دهاليزها، ومطباتها، وخلافات وتحالفات متبدلة، والمواقف السياسية تخضع للظرف الملموس.
إن السيد السيستاني ذو مقام ديني رفيع لشيعة العراق، ولكنه ليس مرجعا سياسيا لجميع العراقيين وساسة العراق، كما تتصرف وفق هذا الأحزاب الإسلامية الحاكمة، وكما يفلسف لنا العديد من بعض المثقفين المنتمين لهذا الحزب الديني أو ذاك، أو المتعاطفين.

إن ما تفعله الأحزاب الشيعية وبعض الملتفين حول المرجع، هو تبرير أي موقف وإجراء لهم باسم السيد وبالتالي محاولة إضفاء قيمة سماوية على الموقف، أو الإجراء المتخذ أو المنوي اتخاذه. إن هذه الممارسات المتكررة تعني في الواقع الأخذ عمليا بعقيدة (ولاية الفقه) ولكن دون القول بها رسميا، أو حتى نفي ذلك بالقول إن الوضعين الإيراني والعراقي مختلفان.

المعاهدة لم تنشر بعد، ولكن إيران أثارت وتثير زوابع حولها فيهب مقتدى الصدر وجيشه الإرهابي، ويضج كل السائرين وراء إيران، بالمظاهرات الاحتجاجية بعد صلاة كل جمعة. ونحن نعرف أن السيد المالكي لا يفرط بالسيادة العراقية والمصالح العراقية الإستراتيجية،،فلِمَ كل هذه القرقعة والفرقعة المستمرتان؟!
أما إيران التي أثارت الضجة المفتعلة، فهي آخر من يحق له محاسبة الحكومة العراقية على ما تفعل، وما يجب فعله. إنها تتدخل يوميا، وبإصرار، في تفاصيل الشأن العراقي ذلك رغم الوعود الزائفة. إنها ترعى الإرهاب في العراق مع حليفها السوري، وليس واجبا على الحكومة أن تقدم في كل مرة كشفا بسياساتها لخامنئي وأحمدي نجاد. إن إيران ليست وصية على العراق والعراقيين، وهكذا يجب التعامل معها!