في خطاب ألقاه قبل أيام، قدم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله نصيحة للشعب وللحكومة في العراق، فيما يتعلق بالاتفاقية المزمع عقدها بين العراق وأميركا. النصيحة هي، أن على العراقيين quot;إتباع إستراتيجية المقاومة والتحرير والدفاعquot; التي اتبعهما حزبه في لبنان والفلسطينيون في غزة. ورأى نصر الله أن لا طريق آخر أمام العراقيين، حكومة وشعبا، سوى تنفيذ نصيحته لأنها quot;السبيل الوحيدquot;. نكرر quot;السبيل الوحيدquot;. السبيل الوحيد لتحقيق ماذا؟ لكي يكف العراقيون عن غيهم ويعودوا إلى رشدهم، ويعود الولد الضال، أي العراق quot;الجريح إلى أمته وشعبه.quot; هل هذا رأي نصر الله وحده؟ لا، هذا ليس رأي نصر الله شخصيا، فهو لم quot;يناشدquot; العراقيين بأسمه الشخصي، وليس بأسم حزبه، وإنما ناشدهم quot;بأسم أحرار العالمين العربي والإسلاميquot;، كما ورد في خطابه. وأي نتائج حققتها المقاومة التي قادها حزب الله، بالإضافة إلى جلاء القوات الإسرائيلية من لبنان؟ جواب نصر الله: quot;تراجعت احتمالات حرب أميركا على إيران بعد درس لبنان وكذاك إسرائيل على سوريا.quot; وإذا سرنا على منطق نصر الله حتى النهاية، فأن من حقنا أن نستنتج أن السيد أراد أن يقول أن على العراقيين أن يتبعوا quot;إستراتيجية حزب الله وحماسquot; لكي تتراجع احتمالات الحرب الأميركية على الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وقبل أن يلتقط العراقيون أنفاسهم ويستوعبوا جيدا ما انطوت عليه نصيحة الأمين العام لحزب الله حتى عاجلتهم، هذه المرة، تصريحات المسؤولين الإيرانيين. فقد حذر السيد علي أكبر هاشمي رفسنجاني، رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني، العراقيين من توقيع الاتفاقية. وأكد رفسنجاني جازما قاطعا، وكأنه يقرأ الغيب، أن quot; جوهر المعاهدة إذا أقرت، تحويل العراقيين إلى عبيد أمام الأميركيين.quot; ومثل نصر الله، فأن رفسنجاني لم يتكلم بأسمه الشخصي أو بصفته أحد كبار المسؤولين الإيرانيين، وإنما تحدث، أيضا، بأسم quot;الأمة الإسلاميةquot;. وقرر المسؤول الإيراني قرارا لا رجعة فيه، وبالطبع بأسم العراقيين ونيابة عنهم، رفضه للمعاهدة حتى قبل أن يعرف تفاصيلها العراقيون أنفسهم، قائلا: quot;إن هذا لن يحدث فالشعب والحكومة العراقيتان والأمة الإسلامية لن يسمحوا بذلك.quot;
وبعد نصر الله ورفسنجاني جاء دور وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي. هذا الأخير أبلغ رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي quot;معارضة إيران توقيع معاهدة أمنية بين بغداد وواشنطن إذا لم تحصل على ضمانات تتيح لها المشاركة في نظام أمني إقليمي /صحيفة الحياة في 08/8/2008 quot;. وهذه التصريحات أكملها مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي، عندما أعلن خلال استقباله للمالكي بأن quot;المشكلة الأساسية في العراق (أقرأ المشكلة الأساسية لإيران) هي وجود القوات الأجنبيةquot;.
حسنا، وإذا اتفق العراقيون فيما بينهم وتوصلوا إلى صيغة مقبولة للاتفاقية التي يراد عقدها، ترضي مصالحهم الوطنية؟ ثم، أليس هناك حكومة انتخبها العراقيون أنفسهم بطريقة ديمقراطية؟ ألا يوجد مجلس نواب منتخب؟ ألا توجد وسائل إعلام حرة في العراق؟ ألا يوجد رأي عام عراقي؟ ألا توجد معارضة عراقية؟ أجوبة هذا الأسئلة لا معنى لها عند أصحاب التصريحات، لأن المهم عندهم هو ضمان مصالح إيران، وفي حال عقد العراقيون معاهدة مع الأميركيين فان ذلك، كما قال رفسنجاني، quot; يشكل خطرا على دول المنطقة (أقرأ إيران).quot;
لو أعدنا من جديد ترتيب الأفكار المشتركة في التصريحات السابقة، حتى نحصد فحواها فسنجد ما يلي:
- أصحاب التصريحات أكثر حرصا على مصالح العراق والعراقيين من العراقيين أنفسهم.
- فرض quot;القيمومةquot; على الشعب العراقي وعلى حكومته، والاعتقاد بأن العراقيين quot;قاصرونquot;، لا يملكون أهلية والتصرف بشؤون بلادهم كفيما يشاءون، وإن عليهم مراجعة حزب الله وإيران عندما يريدون تقرير مصائرهم ومصير بلادهم.
- الأفتراض بأن العراقيين، حكومة وشعبا، لا يفرقون بين الحرية وبين العبودية، بل أنهما يريان أن العراقيين مجموعة من العبيد وبحاجة، حتى يتحرروا من عبوديتهم ويخدموا بلدهم بشكل جيد، أن يصغوا إلى نصائح quot;الأحرارquot;.
- يمنح أصحاب التصريحات لأنفسهم حق الحديث، ليس بأسم العراقيين فحسب، وإنما بأسم ملايين من العرب والمسلمين، بل وجميع quot;أحرارquot; العالم.
- ينظرون إلى الاتفاقية العراقية الأميركية المزمع عقدها من زاوية ضمان أو عدم ضمان المصالح الإيرانية، أولا، وبعد ذلك ضمان المصالح العراقية.
- رغم أن الاتفاقية العراقية الأميركية المزمع عقدها يفترض أن تثير حفيظة جميع جيران العراق والمنطقة، أو على الأقل أهتمامتهم، إلا أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي الوحيدة التي تسمح لنفسها تقديم مواعظ ونصائح وتحذيرات للعراقيين بشأن تلك المعاهدة.
- تأكيد التصريحات على بعد واحد ووحيد في المعاهدة المزمع عقدها هو، البعد الأمني العسكري وما تسببه من مشاكل لإيران، أي أن التصريحات لا تتوقف عند ما قد تفرزه المعاهدة من نتائج، مهما كانت، على الأصعدة الاقتصادية والعلمية، ومسألة إلغاء ديون العراق، وتعميق وتعزيز المسيرة الديمقراطية الجارية، ومسألة المصالحة الوطنية، والدفاع عن حدود العراق.
لا يختلف اثنان حول حق أي شخصية أو أي بلد أن يعبر عن أرائه في كل قضية من القضايا، حتى لو كانت هذه القضية تهم طرفا آخرا. وفي الحالة التي نتحدث عنها، يحق لحزب الله اللبناني أن يعتبر أن quot;تراجع حرب أميركا على لبنانquot; هو الهدف الاستراتيجي الأكبر، أو على الأقل، أحد الأهداف الكبرى التي يسعى لتحقيقها من وراء قيادته للمقاومة. فالعلاقة التي تربطه بالجمهورية الإسلامية الإيرانية هي علاقة عضوية، وهي، بالنسبة إليه، قضية حياة أو موت. ولو سألنا حزب الله عن الأسباب لقال فورا، إن هذه المسألة خاصة به، لا يعرفها ولا يقدر أبعادها إلا هو. وبموازاة ذلك، يحق للسيد رفسنجاني، ولأي مسؤول إيراني أن يبدي اهتماما خاصا بالاتفاقية المذكورة أوحتى أن يعتبرها خطرا على المصالح القومية الإيرانية. فالأمن القومي والمصالح القومية الإستراتيجية الإيرانية لا يحددها إلا الإيرانيون أنفسهم. والحق أن مستقبل الأوضاع داخل العراق تهم الإيرانيين أكثر من أي دولة أخرى. وقوانين الاستراتيجيا تقول أن حدود الأمن القومي الإيراني لا تقف عند العراق فحسب، وإنما تتعدى ذلك فتشمل دول الخليج والأردن وسوريا ولبنان وحوض المتوسط وباكستان وأفغانستان والصين وروسيا. وهذا أمر ينطبق ليس على إيران وحدها إنما على جميع دول العالم، فحدود الأمن القومي لأي بلد لا تقف عند حدود جيرانه. بالإضافة لذلك فأن لإيران مصالح مشروعة داخل العراق ومن حقها أن تدافع عنها. وبالتالي فأنه من المتوقع، بل من المحتم، أن تدافع إيران عن مصالحها، وأن تطلب من حكام العراق أن يأخذوا ذلك بعين الاعتبار.
هذا كله أمر مفهوم. لكن، عندما يتم التعامل مع العراقيين وكأنهم صبيان سياسة، ومجموعة من الأيتام القاصرين، فأن الأمر يخرج من نطاق الدفاع عن المصالح المشروعة، ويتحول إلى جنون العظمة، وفرض الوصاية على الآخرين، حتى لا نقول يصبح نوعا من أنواع الصلف السياسي. وفي هذه الحال فأن من حق العراقيين أن يقلبوا هذا المنطق رأسا على عقب، ويشرعوا هم بإعطاء الدروس والنصائح لمن ينصحونهم ويحذرونهم. وهذا quot;الحقquot; أكتسبه العراقيون من رصيد التجارب المأساوية، والخبرات والدروس التي تعمدت بالدم والتي تراكمت خلال السنوات الخمس الماضيات.
طوال تلك السنوات الرهيبة كان العراقي إما ناهشا لحم أخيه العراقي، أو مفتشا في برادات المستشفيات عن أحبائه، أو مهجرا عن داره، أو مستجديا للإقامة في هذا البلد أو ذاك، أو شاكيا أمره إلى الله، أعزلا ومخذولا ومجنونا. إما quot;الأحرارquot; الذين يتحدث بأسمهم نصر الله فقد كانوا يصبون الزيت على نار العراق المشتعلة، وفي أحسن الحالات، كانوا يكتفون بإحصاء أعداد القتلى العراقيين، وهم يتحدثون على شاشات الفضائيات. لكن العراقيين، وبعد كل هذا الخراب الذي حل ببلدهم، وبفضل كل المحن التي خبروها والتجارب المأساوية التي عركتهم خلال السنوات الخمس الماضيات، بدأوا باستيعاب الدروس. ومن الدروس التي تعلمها العراقيون:
- إن تلك النوائب ما كانت لتفتك بهم لو أنهم أشاحوا بوجوههم عن نصائح الثوريين من quot;أحرارquot; العالمين العربي والإسلامي الذين أرادوا أن يصفوا حساباتهم مع أميركا على الأرض العراقية.
- من كان ربيبا للمخابرات الأميركية ويعمل دليلا لها في أفغانستان لأن مصالحه آنذاك تطابقت مع المصالح الأميركية، كما قال ألف مرة قادة تنظيم
القاعدة، لا مصداقية لكل ما يفعله من أعمال جهادية داخل العراق، ولا مصداقية لكل النصائح التي يقدمها حول ما يجب على العراقيين أن يتقيدوا به وهم يقيمون علاقاتهم مع هذه الدولة أو تلك.
- من يقدم نصائحه الثورية للعراقيين، وهو يتحدث من فضائيات يتكأ أصحابها على جدران القواعد الأميركية، لا مصداقية لكل كلمة يقولها.
- إن quot;أحرارquot; العالم الذين يفطرون مع عيالهم من المعونات الأميركية التي تحصل عليها بلادهم، لا مصداقية لكل الزعيق الثوري الذي يصدرونه.
- من دأب على إرسال المجاميع المسلحة لزعزعة الأوضاع داخل العراق، لا مصداقية لكل درس يعطيه للعراقيين.
- من يقدم مصلحة بلاد أخرى قبل مصلحة بلاده وهو يمتشق السلاح، لا يجني العراقيون من خطاباته الثورية أي فائدة.
quot; أعمدة الحكمةquot; هذه التي شيدها العراقيون على أشلاء قتلاهم يحاول الآن المتحدثون quot;بأسم أحرار العالمquot; نسفها حتى يتهدم البناء وتبدأ طاحونة الموت العراقية تدور من جديد، على طريقة quot;علي وعلى أعدائي الأميركيين يا رب.quot; ولكننا نعرف و quot;أحرارquot; العالم هولاء يدركون جيدا أن المعارك إذا دارت فأنها ستدور على الأرض العراقية وان الدماء إذا سالت من جديد (وهل توقفت حقا؟) فلن تكون إلا دماء عراقية. وحتى نتيقن من ذلك، علينا أن نحصي أعداد من قتل من العراقيين خلال السنوات الماضية ونقارنها بأعداد القتلى الأميركيين. وإذا كان quot;أحرارquot; العالم هولاء حريصين حقا على مصالح العراقيين، فأن مهمتهم الكبرى يجب أن تكون تضميد الجرح العراقي. وتضميد الجرح العراقي لا يتم بتحميل العراقيين ما لا طاقهم لهم به، وإنما في مساعدتهم لإنجاز quot;الممكنquot; أملا في تحقيق quot;الأفضلquot; في قادم الأيام. فالعالم كله يعرف أن المفاوضات الجارية بين الجانبين الأميركي والعراقي هي مفاوضات بين قوي بكل معنى الكلمة، وضعيف بكل معنى الكلمة. والمفاوض العراقي ليس طفلا حتى لا يدرك هذه الحقيقة. والمسؤولون العراقيون، في الحكومة والبرلمان والقوى السياسية المؤيدة للحكومة والمعارضة لها، يدركون جيدا أن طريقا واحدا أمامهم هو، استمرار التفاوض حتى النهاية ومحاولة الحصول على أكبر قدر من المكاسب وضمان مصالح بلادهم، أولا وثانيا وثالثا. إما مصالح الآخرين فتأتي ضمنيا، أي عبر ضمان مصالح العراق في المرتبة الأولى. وكل ما عدا ذلك من quot;نصائحquot; وquot;تحذيراتquot; لا تقود إلا إلى المواجهة المسلحة مع الأميركيين، أي إلى انتحار العراقيين جماعيا.