احتفل العراقيون في 15 حزيران (يونيو) بعيد الصحافة العراقية باعتبار تأسيس صحيفة الزوراء قبل 139 عاماً (1869) كأول صحيفة
عراقية. ومن الطبيعي اعتبار صدور أول صحيفة في البلد بمثابة العيد، ولكن المفروض أن تكون الصحيفة الصادرة تمتلك الحد الأدنى لصفات الصحافة الحرة والمعبرة عن واقع المجتمع وطموحاته بينما كانت الزوراء عكس ذلك تماماُ للأسباب التالية:
1- لم تصدر صحيفة الزوراء بمبادرة أهلية بل أصدرتها ولاية بغداد أيام الوالي العثماني مدحت باشا، ورغم أن هذا الوالي كان من دعاة إصلاح الدولة العثمانية، إلا أن نظرته للاصلاح لم تتعد حدود التسلط العثماني والذي كرسه الاصلاحيون كسيطرة للعنصر التركي (الطوراني) مما ساهم في تكريس القطيعة بين شعوب الامبراطورية العثمانية وجهاز الدولة. ويُركز البعض على السلطان عبد الحميد الثاني كنقيض لهذا الفكر وأنه حكم أكثر من 30 عاماً بعد إبعاد مدحت باشا عن منصب الصدر الأعظم في اسطنبول، سنة 1977، بينما يشكل حكمه استمراراً للسياسة التي تهمنا، فقد استمرت الزوراء في الصدور في عهده كصحيفة رسمية لحكومة واحد من أكثر السلاطين العثمانيين امتصاصاً لخيرات العراق سواء لخزانة الدولة أم لخزانته الشخصية مباشرة.
2- لم تكن الزوراء صحيفة عادية بل صحيفة رسمية تنشر بها السلطة قرارتها الرسمية وبعضاً من أخبارها، كما صدرت بنفس الطريقة صحيفة quot;الموصلquot; سنة 1885 وصحيفة quot;بصرةquot; سنة 1889. وهي على كل حال أشبه بصحيفة الوقائع العراقية (الجريدة الرسمية العراقية) مع فارق أن النشر فيها لم يكن شرطاً لنفاذ quot;القوانينquot; الصادرة. إذن الزوراء ناطقة باسم سلطة خارجية اعتدت على العراقيين خصوصاً عشائرهم وامتصت خيرات العراق لا سيما الزراعية لفترة أربعة قرون، وصدرت في أتعس فترة (بين 1831 و 1917) اتسمت باستخدام المدافع الثقيلة لاخضاع المدن والامارات العشائرية (كالموصل وبهدينان وبابان وكربلاء). فهل يُعقل أن نحتفل بهذا التأسيس كعيد لصحافة نريدها حرة معبرة عن واقع البلد وطموحاته نحو مجتمع حر وديمقراطي.
3- وكما ولدت هذه الصحيفة في أحضان هذه الدولة، فقد انتهت بنهايتها في العراق، عام 1917، عند سقوط أسوار بغداد أمام القوات البريطانية التي غزت البلاد مع انطلاقة الحرب العظمى واعلان الدولة العثمانية (أو التركية) الحرب على الحلفاء الى جانب ألمانيا التي مارست بفكرها الامبراطوري تأثيراً كبيراً على القيادة السياسية (والعسكرية) في الدولة خلال العقود الأخيرة من عمرها.
وأرجو أن لا يذكر البعض أن هذه الدولة كانت اسلامية ويرهبنا بالشعارات، إذ يمكن الكتابة مفصلاً عن جرائمها الحربية والاقتصادية في العراق حتى خلال الحرب العظمى رغم أن العراقيين وقفوا معها ضد الجيش البريطاني بتحريض وقيادة علماء الشيعة وقُتل جراء ذلك الآلاف من عشائر الوسط والجنوب الى جانب جيشها في مواجهة القوات البريطانية.
4- ظهرت صحافة حرة في العراق مع الاعلان عن حرية الصحافة ضمن الاصلاحات التي تبنتها الدولة العثمانية بعد انقلاب الاتحاد والترقي عام 1908. وكما ظهر زيف الاصلاحات السياسية (quot;انتخاباتquot; مجلس المبعوثان مثلاً)، بدا واضحاً أن السلطة الاستبدادية لا يمكن أن تتحمل وجود صحافة حرة، فقد تسببت سياسة كم الأفواه وغلق الصحف في بلوغ عدد الصحف الصادرة في بغداد، يبن 1908 و 1914، 40 صحيفة (منها بغداد والمصباح والتهذيب). ويمكن مقارنة هذا الرقم مع بيروت التي تميزت بوضع خاص في تلك الفترة، إذ صدرت فيها 60 صحيفة خلال نفس السنوات الست، مما يدل على الحيوية النسبية للمجتمع العراقي ومثقفيه وقياداته السياسية. لهذا السبب ولأسباب أخرى معروفة لدى العراقيين، يمكن اعتبار السلطة التي أصدرت الزوراء عدوة الصحافة الحرة.
5- إن الاحتفال بتأسيس الزوراء كعيد للصحافة العراقية يوهم الانسان بأن الصحافة في العراق عمرها فعلاً 139 عاماً، بينما بدأت الصحافة في العراق بداية القرن العشرين كما ذكرنا في ظروف بالغة الصعوبة. ثم عادت وصدرت أيام العهد الملكي ولم تستطع أن تُكوّن تقاليدها وتُراكم خبرتها بصورة منتظمة بسبب الاغلاق المستمر للصحف المعارضة للحكم وسياسته ورجالاته. أما بعد 1958، فقد عرفت الصحف انطلاقة جديدة لكن سرعان ما انغمس البلد في صراع دموي ينفي عن الآخر الحق في التعبير وتأثرت الصحافة بذلك طبعاً. وبعد فترة ازدهار نسبي أيام الرئيس عبد الرحمن عارف، لا سيما في عهد رئيس الوزراء الراحل، د. عبد الرحمن البزاز، وصل حزب البعث الى السلطة ودمر الرصيد الضعيف لتقاليد الصحافة العراقية وأحالها الى مهزلة الصحافة المُفرغة من معانيها في ظل الاستبدادية الفردية. لذلك ينبغي الحذر أيضاً من الضبابية وربما التضليل الذي يسببه اختيار مثل هذا التاريخ، عيداً لصحافة متقطعة ومضطهدة عبر عقود طويلة تخللت الفترة بين 1869 و 2003.
وفي هذا السياق نلاحظ تميز الأقليات الدينية بسبقها في مجال الصحافة وذلك بفضل حماية الدول الغربية لها من شطط العثمانيين منذ توقيع معاهدات الحماية اعتباراً من القرن السادس عشر. ولذلك فان أول صحيفة أهلية هي نصف شهرية يهودية صدرت 1870 واسمها (روبير ميشارم) وأول مطبعة أهلية عراقية هي المطبعة الكلدانية وقد تأسست عام 1865 أي قبل وصول مدحت باشا الى ولاية بغداد. بينما لم تصدر أول صحيفة عراقية عامة الا بعد إزاحة عبد الحميد الثاني عن الخلافة سنة 1908 وفي الظروف التي ذكرتها.
لكل هده الأسباب، أستطيع القول بأننا في عراق اليوم بصدد جمع وترصين إرث صحافي مُشتت، إن صح التعبير، وتوجيهه نحو تكوين تقاليد صحافية حقيقية ضمن الجهود الحالية المضنية لبناء ثقافة جديدة تتناسب مع تطلعاتنا في مطلع القرن الواحد والعشرين. من جهة أخرى، أقترح على نقابة الصحفيين العراقيين تبني يوم آخر يتميز باشراقة عراقية وطنية للاحتفال بعيد الصحافة والنظر مثلاً في يوم صدور أول صحيفة أهلية عراقية كعيد للصحافة أو أي يوم آخر تراه مناسباً، إذ لا يمكن في نظري اعتبار يوم تأسيس صحيفة الزوراء (العثمانية المستبدة) عيداً للصحافة العراقية.

المصادر: أذكر فقط بعض المصادر بما يتلاءم مع طبيعة هذا المقال:
- عباس العزاوي: تاريخ العراق، ج 7، بغداد، 1955، وج،8 1956 (لا سيما ص 168-169)
- علي الوردي: لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج 2 و3 و 4 بغداد
- روفائيل بطي: تاريخ الصحافة في العراق، القاهرة، 1955
- منير بكر التكريتي: تاريخ الصحافة العراقية، بغداد، 1969