الرسالة التي كتبها الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، واستلمها أهله قبل أيام، لم تسمح بها حماس لأسباب إنسانية، بل لأسباب سياسية. فحماس كفرع من فروع الإخوان المسلمين التي تسيّس الدين، وتوظفه لخدمة أغراضها، لا تؤمن ولا تعترف بحقوق الإنسان الواردة في البيان العالمي، فالحقوق حسب عقيدتها: كلها- ولكن من خلالها- لله. ولذا فهي لا تعبأ بالقضايا الإنسانية، وتصفها بالخزعبلات العلمانية والضلال العلماني. خاصة وإن هذه الحركات الدينية ومنها حماس تميّز في تعاملها مع الناس بين إنسان وإنسان من خلال النظر إلى معتقداته الروحية. ليس هذا فحسب بل هي- حين يتعلق الأمر بالاستئثار بالسلطة- تطلق نيران بنادقها ومدافعها على صدور الفلسطينيين الذين لا يؤيدون توجهاتها. وتلقي بمعارضيها الشبان من فوق أسطح البنايات الشاهقة، وتزين للفتيان المراهقين الموت انتحارا، واعدة إياهم بتحقيق أحلامهم وإزالة كبتهم في الآخرة.
إن حماس التي تشتد عزلتها المحلية والعربية والدولية، وتتزايد عليها الضغوط من كل جانب، ويتصاعد غضب أهل غزة عليها لما سببته لهم من آلام ومعاناة وبطالة وفاقة وقمع وحرمان. وبسبب تهديد إسرائيل باجتياح قطاع غزة، الأمر الذي سيكون له مضاعفات خطيرة ليس على المستوى المحلي والعربي فحسب، بل قد يهدد حياة زعماء حماس، وينهي حكمها في القطاع، التي دفعت من أجله الكثير.
يُضاف إلى ذلك أن مبادرة صنعاء التي أعاد أطلاقها الرئيس عباس، ويسوّقها اليوم عربيا، وقد يسوّقها غدا إقليميا ودوليا، قد تلقاها الفلسطينيون في الضفة والقطاع والمنافي، بالترحاب البالغ. ولا تستطيع حماس بشكل من الأشكال تجاهلها بسبب موافقتها المبدئية عليها في صنعاء. لهذه الأسباب مجتمعة فقد هدفت حماس من خلال سماحها لرسالة شاليط أن تصل إلى أهله، للمرة الأولى منذ أسره، هدفت أن ترسل رسائل ذات إشارات ودلالات متعددة في كل الاتجاهات.
فهي أولا ترسل رسالة حسن نية إلى إسرائيل تؤكد فيها حماس أن الجندي الإسرائيلي شاليط ما زال حيا، وصحته جيدة، ويُعامل معاملة حسنة. ومن ناحية أخرى، تعبر عن رغبتها في التهدئة، واستعدادها للتفاوض غير المباشر- عبر مصر- مع إسرائيل، للتفاهم حول هدنة طويلة الأمد تتوقف فيها كل الأعمال العسكرية. والمقابل طبعا عدم استهداف زعماء حماس، وإنهاء الحصار الخانق على قطاع غزة، إضافة إلى استعدادها لإطلاق سرح شاليط مقابل إطلاق سراح أسرى فلسطينيين.
وهي ثانيا ترسل رسالة إلى الدول العربية التي لامت حماس على تعنتها في مواقفها، ووضعها العصي دائما في دواليب محادثات السلام لإفشالها، وانقلابها على اتفاق مكة، وعلى السلطة الفلسطينية، واقتطاعها غزة إمارة خاصة بها تستأثر بحكمها. رسالة تقول فيها: إنها (أي حماس) مستعدة لتغيير سلوكها، والتخفيف من غلوائها، واعتماد التوازن في علاقاتها، وقبول النصح، وتقديم التنازلات.
وهي ثالثا ترسل رسالة إلى مصر التي خذلتها حماس في الكثير من المواقف والوساطات، وخاصة في موضوع شاليط، والتي لا يمكن لحماس أن تستغني عنها، أو تتجاهلها، أو تقلل من أهميتها بالنسبة لها، وللغزاويين، بأي شكل من الأشكال، فمصر بابها ونافذتها وممرها وشريان حياتها إن كان في السر أو في العلن. رسالة تعزز موقف مصر في مفاوضاتها الحالية مع إسرائيل. وتقول فيها: عفا الله عما مضى وانقضى، وإنها تدعم مساعي مصر في هذا الاتجاه، وراضية باقتراحاتها.
وهي رابعا رسالة إلى السلطة الفلسطينية التي اتهمتها بالخروج عن الشرعية، والتي طالما سخرت من صواريخ القسّام ووصفتها بالألعاب النارية. واتهمتها بإفشال محادثتها مع إسرائيل، وإن احتجاز جندي إسرائيلي لا يساوي الثمن الذي يدفعه الغزاويون خاصة، والفلسطينيون عامة، تقول فيها إنها موافقة على مبادرة الرئيس عباس.
وهي أخيرا رسالة إلى المجتمع الدولي الذي أوقف مساعدته للفلسطينيين منذ أن صار لحماس الكلمة الفصل بعد أن فازت حماس بالانتخابات، مشترطا اعترافها بالاتفاقيات الموقعة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، توحي بها إنها مستعدة للاعتراف بتلك الاتفاقيات، من خلال موافقتها على الهدنة والتهدئة.
إن موافقة حماس على الهدنة والتهدئة، ووقف كل أشكال العمليات العسكرية مع إسرائيل، يعني تخلي حماس عن سلاحها ضد العدو الإسرائيلي، وعن شعارات المقاومة التي كانت قد أطلقتها واستقطبت بها عواطف الجماهير الفلسطينية والعربية، واستخدمتها كسلاح لتكفير وتخوين كل من يعارضها ولا يسير في ركابها.
والسؤال هو: هل حماس وقيادة الإخوان المسلمين جادة وصادقة النوايا في هذه الرسائل والإشارات؟ أم أن الأمر ليس إلا مناورة لكسب الوقت بانتظار ما ستسفر عنه الأوضاع العربية والإقليمية والدولية. وهل من مصلحة حماس تحسين الأوضاع المعيشية للغزاويين، أم أن مصلحتها إلهائهم- للحفاظ على سلطتها- بالجري لتأمين حاجاتهم اليومية، والبحث المضني عن الوقود والغاز، والغذاء والدواء؟