-1-
في ظل التموضع الجديد للأصولية الدينية المتحدية والشرسة، ومعاداتها للعولمة والعَلْمانية والحداثة، وحملها للسلاح، وممارستها للقتل والعنف للوصول إلى السلطة، ظهر فن الشباب الغنائي الجديد، أو ما يعرف بعصر quot;الفيديو كليبquot;، الذي يوصف بأنه فن غناء الصوت والجسد معاً. والذي يوصف أيضاً، بأنه فن الاستعمال لمرة واحدة Disposable Art، كأي مستهلَك سريع في هذا العصر الاستهلاكي الذي نعيشه.

-2-
فكما كان أبو نواس وبشّار بن برد وديك الجن الحمصي وغيرهم مرآة ولسان عصرهم، فإن هؤلاء المغنين والمغنيات هم مرآة عصرهم، ولسان حاله كذلك. وهذه الحرية المفروضة علينا فرضاً، والتي رحبنا بها، وسعدنا بها، من قِبَل ثورة الاتصالات والمتمثلة خير تمثيل بالانترنت، أتاحت دون شك هامشاً أكبر للحرية، وإبداء الرأي والرأي الآخر، لليمين واليسار والوسط، لكي يتكلموا كما يشاءوا من خلال المواقع والمدونات على الانترنت، وكذلك على بعض الفضائيات التي لا تتبع نظاماً عربياً، أو حزباً، أو منظمة سياسية. وهذا الواقع الآن، يذكرنا بواقع منتصف القرن الثامن الميلادي ومنتصف القرن الثاني للهجرة، وهو العصر الذي عاش فيه أبو نواس وبشّار بن برد. وهو العصر الذي قال فيه طه حسين إنه يتصف بخلال أربعة: الشك، والمجون وإيثار اللذة، وحرية العواطف، وسهولة اللفظ (حديث الأربعاء، ج2، ص40) بل إن مطربي ومنشدي وقائلي الفيديو كليب الآن، هم أشد الناس له تمثيلاً، وأصدق لحياته تصويراً، من الفقهاء وأصحاب الكلام والأصوليين، الذين لا ينتسبون إلى هذا العصر في مظهرهم ومخبرهم وخطابهم. بل هم يفرضون أنفسهم فرضاً على هذا العصر بالقوة والإكراه وبمظلة الدين.

-3-
لا نريد أن نقول أن هذا الفن كان رداً على طغيان الأصولية الدينية وتحدياً لها، ولكنه على الأقل كان مساوقة لها في التفاهة والسطحية. فالتفاهة والسطحية التي نجدها في الأصولية الدينية ودعواها وخطابها، نجدها كذلك في غناء الفيديو كليب. فهذه الحقبة ndash; تسعينات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين ndash; كانت حقبة ازدهار الأصولية الدينية/السياسية في العالم العربي، وهي كذلك حقبة ظهور التفاهة والسطحية في فن الغناء. وفي هذا يقول أبو الفرج الأصبهاني (897-967 م) في سِفْره quot;الأغانيquot; : quot; إذا أردت أن تعرف حضارة أمة، فانظر إلى موسيقاها وإلى مطربيها، فإن رأيت منهم عزوفاً عن اللحن، وخلطاً في الصوت، فتأكد أن الأمة سائرة نحو الهاوية.quot;

-4-
وهذا لا يعني أن ملامح مثل هذه الحقبة، لم تظهر في الماضي في التاريخ العربي. فالتاريخ ماكر ويُعيد نفسه. فقراءة سريعة لأجزاء quot;الأغانيquot; (21 جزءاً) لأبي فرج الأصبهاني، وما فيها من قصائد وأغانٍ تافهة في نظر البعض، مثل تلك الأغاني التي نسمعها هذه الأيام، تدلنا على أن القرن العاشر للميلاد كان قرن لهو وعبث، ورغم هذا فقد تعرّض أبي الفرج الأصبهاني لكثير من النقود السلبية، كما يتعرض اليوم أصحاب الفيديو كليب. فقال فيه ابن الجوزي: quot;ومثله لا يوثق بروايته، يُصرِّح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهوِّن شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الأغاني، رأى كل قبيح ومنكرquot; (المنتظم لابن الجوزي 7/40). وقال فيه الإمام الذهبي: quot;رأيت شيخنا تقي الدين بن تيمية، يضعِّفه، ويتهمه في نقله، ويستهول ما يأتي بهquot; (عيون التاريخ، لابن شاكر، نقلاً عن كتاب أبو الفرج الأصبهاني، وكتاب الأغاني، لمحمد عبدالجواد الأصمعي، ص 95).

-5-
وقد تنكّر وجحد كثير من الباحثين الأصوليين المعاصرين كتاب quot;الأغانيquot;، وتلاموا على من أشاد به، واستعمله كمرجع أساسي لأبحاثه، ومنهم طه حسين الذي أشاد بكتاب الأغاني في الكثير من كتبه، وجعله من المصادر الهامة لدراسة المجتمع الإسلامي. وقال عنه: quot;لم يعرف العرب عصراً أكثر فيه أصحابه من المجون، و أتقن الشعراء التصرف في فنونه وألوانه كهذا العصر.quot; (حديث الأربعاء، ج3، ص 53 ).
السلام عليكم.