لاشك في أن لعبة كرة القدم هي الأكثر شعبية في العالم، بمختلف قاراته وبلدانه، وكل رياضة وجدت لتربية الجسم وضمان صحته، وبعضها لتربية روح الفريق الجماعي، والمنافسة البريئة بين اللاعبين، ومن هذه كرة القدم بوجه خاص. شخصيا لم أمارس الرياضة في المدارس ما عدا فترة صعود المد القومي الشوفيني في أواخر الثلاثينات حين فرض على الطلبة نظام quot;الفتوةquot; شبه العسكري، على طريقة ما كان معمولا بها في الدول الفاشية عهد ذاك. أما في الثانوية فقد رسبت في مادة واحدة هي الرياضة البدنية لأنني لم أحضر درسا واحدا طوال العام الدراسي، ثم تداركت الأمر لكيلا تذهب كل جهودي هدرا. المرة الأولى التي لعبت فيها الرياضة حقا كانت في بعض فترات السجون برغم نفوري من إيقاظي في الصباح الباكر، وكان العسكري الشيوعي المناضل الشهيد هو الذي يقوم بتدريبنا في كل من سجن الكوت في منتصف الخمسينات، ثم في المبنى الجديد لنقرة السلمان، حيث استخدمت ساحتها الواسعة لكرة القدم أيضا. كل هذا لا يعني أن الرياضة لم تكن تثير اهتمامي في الصبا والشباب، فقد ذهبت مرارا مع أولاد عمي في صباي لمشاهدة لعبة ملاكمة خفيفة، وبعض المصارعات في الساحة المعدة لها، والتي كانت تدعى بـquot;الزور خانةquot;، وهي كلمة يظهر أنها فارسية.
هذه مقدمة لتبيان أنني وإن لم أمارس الرياضة البدنية فلست غير مبال بها، أو غير مهتم بعدد منها، وخلال سنواتي الطويلة، منذ السبعينات، في باريس شاهدت عشرات الريبورتاجات التلفزيونية الحية عن مسابقات هامة، سواء التنس، أو كرة القدم، أو كرة السلة، أو الركبي، كما شاهدت في التلفزيون والأفلام مناظر مسابقة الثيران، والصيد على الطريقة البريطانية، ومباريات سباق السيارات، والدراجات البخارية.
بعد كل هذه الحقب توصلت للرأي التالي:
1 ndash; إن بعض ألوان الرياضة ناعم، هادئ، ومنها ما قد يشجع انطلاق غرائز ونزعات العنف الكامنة في الإنسان، ومنها خاصة مصارعة الثيران، والصيد على الخيول مع الكلاب الضخمة الشرسة، وحيث أحيانا تكون الفريسة أرنبا مسكينا، تقطعه أنياب الكلاب، وأصحابها مسرورون، وهي هواية موروثة من عهود الإقطاع ولها لوبي بريطاني بالملايين. وقد أصدر البرلمان البريطاني قبل عامين قانوناً منع بموجبه هذه الرياضة الوحشية، وذلك تجاوباً مع رغبة 70% من الشعب البريطاني حسب استطلاعات الرأي في منع هذه الرياضة. كذلك هى ملاكمات الوزن الثقيل، والمصارعة العنيفة، ولا يندر أن نسمع بين المشجعين المهووسين بالملاكمة من يصيح مهتاجا: quot;اضربه، اقتله!quot; . والجدير بالذكر إن الدول الاسكندنافية قد منعت المصارعة والملاكمة في بلدانها.
2 ndash; إن سباق السيارات، والدراجات البخارية، تعتمد على السرعة القصوى؛ فهل ليس لذلك تأثير سلبي على سواق السيارات، والدراجات البخارية من الشبان الذين ينجرفون وراء هوس السرعة الطائشة، والتي هي من وراء معظم حوادث السيارات، والدراجات في العالم، والتي يقع عشرات الآلاف ضحاياها في كل عام؟
3 - هناك أنواع من الرياضة تعتمد على الخفة، والتمرين، ولا تحتمل العنف، ومنها كرة السلة، وكرة المنضدة، ولعبة الركبي، التي رغم ذلك، قد يتشابك فيها المتسابقون أحيانا تشابكا عنيفا مع الأسف.
إن محور مقالنا هو مباريات كرة القدم، وتطورها، كما راقبت ذلك من فرنسا منذ السبعينات، سواء في مباريات الاولمبياد، أو كؤوس القارات.
أي موضوع هو اليوم سيد المواضيع في وسائل الإعلام؟ إنه دون شك مباريات الكرة بين دول أوروبا. إن عشرات من أخبار الكوارث البشرية قد يخصص لإحداها بضع دقائق من نشرات الأخبار، بينما أخبار المباريات تبدأ بها نشرات الأخبار، وتنتهي، وهي ظاهرة لا تخص أوروبا وحدها، بل نجدها اليوم في نشرات الأنباء الدولية، وقد تحول مفهوم البطولة نفسه حتى أوشك أن ينحصر تدريجيا في أبطال الرياضة، لاسيما في كرة القدم، كما أن أي لاعب كرة مبرز قد ينال دخلا سنويا يفوق دخل مئات الأساتذة، والعلماء.
لقد وقعت اللعبة ضحية للعديد من الظواهر السلبية بما فيها تدخل بعض الحكومات، والشمولية على وجه التحديد، كما كان يفعل عدي صدام باللعبة واللاعبين العراقيين، وإذلالهم، وتعذيبهم عند الخسارة، وسجنهم في النادي الاولمبي. أما كرة القدم اليوم في عهد ما بعد صدام فهي أيضا ضحية فتاوى الأحزاب والمراجع الدينية التي تحظر لبس بنطلون الرياضة القصير وتعتبر بعض أنواع الرياضة مجرد رجس من الكفار، ولا ننسى تصريحا لمقتدى الصدر، مفاده إن على الرياضيين حصر الألعاب في رياضة كالمباريات بالسيوف!
ولعل ما راحت كرة القدم تصبح ضحية لها بالتدريج من العقود الأخيرة هو ظاهرة العنف، الذي يلوث المباريات، لاسيما عنف جمهور المشجعين، وقد أصبحت من مظاهر اليوم أعمال عنف واشتباكات بين جماهير الفرق المتنافسة، حتى تكاد اللعبة تخرج أحيانا من هدف الرياضة، وتربية روح الفريق، والمنافسة الرياضية، إلى هوس محموم للفوز بأي ثمن، والنظر الفريق المنافس أحيانا كعدو؛ ومن لا يتذكر التحامل العدواني والاستفزازي للاعب الإيطالي، وشتائمه البذيئة، للاعب الفرنسي زيدان خلال المسابقة الدولية السابقة، وردود الفعل.
أما عن مواقف بعض الحكومات فربما تنجرف هي الأخرى وراء الهوس عند خسارة فريق بلادها في مباريات هامة، والمثال الصارخ، تصريحات رئيس الوزراء البولوني منذ أيام ضد الحكم البريطاني بعد خسارة الفريق البولوني. قال صاحبنا فيما قال:
quot; بصفتي رئيس وزراء يجب أن أكون متوازنا، ودبلوماسيا، ولكن ما حدث في تلك الليلة فاق كل التصورات، خاصة أن الخطأ الفادح والمستفز للحكم الإنكليزي جعلني أتمنى أن أقتله.quot;!!
هل من عجب بعد هذا أن يتلقى الحَكَمْ المسكين تهديدات بالقتل تجعل البوليس البريطاني تتخذ إجراءات لحمايته؟؟ الغريب أن بولونيا هي في عهد ما بعد النظام الشمولي الذي كان يسخر الرياضة للدعاية للنظام؛ غير أن من حسن الحظ أن هذا الموقف نادر بين حكومات اليوم، ولعل المسئول البولوني نفسه قد ندم على تصريحاته أن يكون فوز فريق البلد في مباريات هامة مبعث اعتزاز وطني هو ظاهرة صحية جدا، ولكن الاعتزاز الوطني لا ينبغي أن يتحول إلى تعصب ضيق، وكراهية للآخر.
نعم إن لعبة كرة القدم، كما قلنا، هي الأكثر شعبية في العالم، ويمارسها حتى الصغار في فرنسا مثلا طوال العام. إنها بحق لعبة مشوقة جدا، ولو جرت على الأصول لثقفت وربت بفوائد عمل الفريق المتعاضد، ولكن ليست هذه هي الحال دائما، دون أن نعني أن كل المباريات الهامة قد تلوثتن بل نقصد التلوث التدريجي والمتصاعد. هنا، لعل من المفيد ذكر أن الحكومات الاشتراكية الفرنسية في الثمانينات والتسعينات قد عمت إلى التركيز على تشجيع اللعبة بين أبناء الضواحي بأمل تخفيف حدة العنف المستشرية هناك، وكان ذلك الاهتمام الاستثنائي يجري بثمن إهمال تثقيف الطلبة بواجبات المواطنة، والأصول المدنية، وكان رئيس بلدية ما يهتم بإبراز برياضي مبرز، دون التفات لمن يبرز في الضواحي من مثقفين متميزين؛ أما اليوم، فقد تحولت الكرة نفسها لعامل تأجيج لمشاعر العنف في تلك الضواحي.
إن المؤسف أنه هذه اللعبة الشعبية، الراقية، والمشوقة، تكاد تتحول سنة بعد أخرى لمثار عنف، وكراهية، واضطرابات، وإلى هوس للفوز بأية طريقة كانت، كما أنها تتحول إلى quot;بزنس يدر المليارات، وقد صار شراء لاعب من فريق لحساب فريق دولة أخرى ظاهرة ملحوظة، حيث تقدم إغراءات مالية سخية لإقناع اللاعب بالانضمام لفريق آخر.