ثلاثة أسباب دفعتني إلي الكتابة في هذا الموضوع الإشكالي، أولها المشاركة في الجدل المثار حاليا في دوائر مؤسسات التفكير ومراكز الأبحاث السياسية والاستراتيجية في العالم، حول معايير التدخل لأسباب إنسانية في ظل المفهوم الجديد quot; للسيادة quot; داخل العولمة، واستحضار كتابات الفلاسفة السياسيين في الغرب، وتسليط الأضواء عليها من جديد، خاصة دراسات quot; جان بودان quot; و quot; جروتيوس quot; وغيرهما. والسبب الثاني هو التعليقات التي أثارها مقال الصديق الأستاذ مجدي خليل حول quot; سيادة الدولة وحقوق الإنسانquot; علي موقع إيلاف، والتي كشفت عن حالة مزمنة من التغييب القسري للعقلية العربية عما يجري في عالم اليوم، فضلا عن هيمنة فكرة المؤامرة والاستعمار بالمعني التقليدي. السبب الثالث هو الدراسة القيمة للأستاذ باسل يوسف باسيل المعنونة ب quot; سيادة الدولة فى ضوء الحماية الدولية لحقوق الانسان quot; وصدرت عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، والتي تناولها المقال..
وفي تصوري ان أية معالجة لهذا الموضوع الحساس خارج سياقه الفلسفي التاريخي، ستؤدي حتما إلي المزيد من التغييب وسوء الفهم والخلط، لاسيما وان لدي العقلية العربية quot; قابلية شديدة quot; للاستعمار ndash; حسب الأستاذ جودت سعيد ndash; بل ان معظم مشاكلنا الفكرية اليوم مردها الى القابلية الذهنية للغزو الفكري والأمركة والتغريب، أي القابلية للاخضاع، وان القابلية للاستعمار بوجه عام ولدت في بالنا قبل ان يستعمرنا الآخر.
أول مقولة موثقة لمبدأ التدخل (لدوافع) إنسانية - Humanitarian-intervention في كتابات laquo;جروتيوسraquo; - Grotius عام 1625، الذي افترض حق التدخل لمنع المعاملة القاسية من قبل دولة ما لرعاياها. ويرى أن هذا الحق متأصل في النظريات الكلاسيكية للحرب العادلة، وقد همش هذا المبدأ منذ القرن السابع عشر حتى نهاية الحرب الباردة، أمام نصوص عدم التدخل القاهر الواردة في معاهدة laquo;ويست فالياraquo; عام 1648، والتي كانت تمثل المبدأ السلوكي الأساسي في النظام الدولي. ولكن quot; حق التدخل لأسباب انسانية quot; عاد من جديد اليوم، وبقوة، بعد أن تآكلت معظم بنود هذه المعاهدة، ودخل العالم مرحلة quot; ما بعد ويست فاليا quot; أو quot; ما بعد الحداثة السياسية quot;. ومن المتوقع أن يتخذ أبعادا جديدة بعد إضافة quot; حزمة تفصيلية إضافية، من معايير حقوق الإنسان quot; هي محل النقاش الآن.
والواقع أنه منذ laquo;جروتيوسraquo; - (1583 - 1645) جرى مداد كثير حول تعريف معنى laquo;السيادةraquo; والكلمة (Sovereignty) اشتقاقًا جاءت من (Super + regnum) أي laquo;الحكم الأعلىraquo; أو الذي laquo;لا يعلى عليهraquo;، وبالتدريج أضيف إلى هذا المعنى معنى laquo;المطلقraquo; وlaquo;الأوحدraquo; في تعريف السيادة في الدولة الحديثة. وهكذا ارتبطت الدولة الحديثة بمفهوم السيادة أو قل laquo;إن مولد الدولة الحديثة ليس سوى: نشوء مفهوم السيادة وقبوله النهائيraquo;.
على أن تفهم laquo;السيادةraquo; هنا بالمعنى الزمني لا الروحي، فالتحول التاريخي الذي صاحب ظهور الدولة في شكلها الحديث تمثل أساسًا في تغير مفهوم laquo;مصدر السيادةraquo;، من الله إلى الإنسان في صورته الفردية أو في صورته الجماعية أو في صورته الأكثر تجريدًا وهي laquo;الإنسانيةraquo;.
وهذه السيادة تتأكد في الميدانين الداخلي والخارجي معًا وفي وقت واحد. laquo;فالدولةraquo; هي laquo;الحكم الأعلىraquo; في الصراع الدائم بين جميع القوى الاجتماعية، ولا يخضع سلطانها من الوجهة المادية أو الأدبية لأي سلطة أخرى سواء تعلق الأمر بتنظيمات نقابية أو لطوائف دينية أو بجماعات مهنية أو سياسية، كما تتميز الدولة أيضًا في الجماعة الدولية بمستوى عال من الاستقلال والحرية في التصرف.raquo;
وقد تركت الثورتان الفرنسية 1789 والأمريكية تأثيرًا لا يقل أهمية عن نشوء laquo;الدولة الحديثةraquo; في أوروبا. وكان المبدأ الليبرالي في تلك الحقبة يقول بأن laquo;السيادةraquo; لا تنتمي بالمعنى الشخصي لحاكم يتمتع بحق التعيين الإلهي، وإنما بشكل متعدد إلى laquo;الشعبraquo; أو laquo;الإرادة العامةraquo; أو laquo;القانونraquo; أو laquo;الأمةraquo;.
وكان يمكن لهذا المبدأ أن يبرر الحكم الاستبدادي، أو حتى حكم إمبراطور نصب نفسه بنفسه (مثل نابليون)، بالإضافة إلى التجارب الديمقراطية، ولكنه قضى إلى الأبد على الفكرة القائلة بأن laquo;السيادةraquo; تنطوي بالضرورة على قبول حكم مجسد.
وبطبيعة الحال، فإن فكرة أن كل laquo;أمةraquo; لابد وأن تكون لها laquo;دولتهاraquo; الخاصة - هو الذي ترك بعد ذلك أعظم تأثير على الحدود السياسية في الكرة الأرضيةraquo;. فقد عززت laquo;الديمقراطيةraquo; فكرة السيادة بإعطائها أساسًا شعبيًا وسندًا عاطفيًا مشتركًا، وليست سيادة الدولة في نظر الديمقراطية سوى التعبير عن حق الشعب في تقرير مصيره، فهى تقدس سيادة الإرادة الشعبية وتوثق الرابطة بين الوطنية وبينها.
والدولة بوصفها سلطة فعالة وسلطة ذات سيادة تعرف أيضًا بأنها سلطة شرعية. وهكذا أصبح laquo;مبدأ الشرعيةraquo; هو المظهر الروحي للسيطرة، والظاهرة الأخلاقية للإكراه. ومع ذلك فقد انطوى مفهوم laquo;السيادةraquo; -Sovereignty- ذاته على مفارقة لازمته على مر العصور حتى اليوم. فهو يعني ضمنيًا إدعاءً مزدوجًا: الاستقلال في السياسة الخارجية والاختصاص الحصري في الشئون الداخلية.
فالسيادة الداخلية تشيرإلى سلطة عليا لصنع القرارات وتنفيذها بالنسبة لإقليم وسكان معينين، ومن جهة أخرى تشير السيادة الخارجية إلى نقيضها: عدم وجود سلطة دولية عليا، وبالتالي استقلال الدول ذات السيادة، أي أن مبدأ السيادة يؤدي بالضرورة إلى laquo;الفوضىraquo; الدولية. ففكرة وجود سلطة عليا ضمن الدولة تؤدي منطقيًا إلى إنكار وجود كيان فوق الكيان السيادي للدولة.
من هنا فإن تاريخ نظام الدول الحديث (أي تاريخ السيادة) بدءًا من القرن السابع عشر، ما هو إلى تاريخ المحاولات التي بذلت لإيجاد نوع من التوازن أو laquo;المساواة السياديةraquo; بين الدول. ويبدو أن مكمن الخطأ يتمثل أساسًا في (المطابقة) بين سيادة الدولة وبينlaquo;قدرتها على أن تفعل ما تشاء.raquo; فالقول بأن الدولة ذات سيادة لا يعني القول بأنها تستطيع أن تفعل ما يحلو لها، وأنها متحررة من تأثير الآخرين، تستطيع الحصول على ما تريد.
فقد تكون الدولة ذات السيادة مضغوطة من كل الجوانب، ومضطرة لأن تتصرف بطرق كانت تود أن تتلافاها، ولا تستطيع بالكاد أن تفعل أي شيء بالضبط كما تريد.
إن سيادة الدولة لا تنطوي مطلقًا على انعزالها عن آثار أفعال الدول الأخرى. فليس هناك تناقض بين أن تكون الدولة ذات سيادة وأن تعتمد على الآخرين في نفس الوقت. فنادرًا ما تعيش الدولة ذات السيادة حياة حرة سهلة. إن القول بأن دولة ما ذات سيادة يعني فقط أنها تقرر لنفسها كيف تعالج مشكلاتها الداخلية والخارجية.raquo;.
اليوم يعتبر كثير من الباحثين والمنظرين السياسيين أن مبدأ laquo;السيادةraquo; ليس معاكسًا لتطور النظام الدولي فحسب، بل أنه مضلل أيضًا، لأن جميع الدول مخترقة بصورة أو بأخرى. ويجادلون بأن التطورات الاندماجية (التكاملية) مثل laquo;الاتحاد الأوربيraquo;، والعملية برمتها المقترنة بالترابط والتداخل المعقد، قد جعلت ممارسة laquo;السيادةraquo; (إن لم تكن الفكرة) تنطوي على مفارقة تاريخية أكثر تعقيدًا.
أضف إلى ذلك أن الخط الفاصل الذي كان يميز بين الصراعات الداخلية والصراعات الدولية قد اختفى - أو أوشك على الاختفاء - وهو الخط الذي بقى واضحًا طوال القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب الباردة، إلى حد كبير.
هكذا تآكلت laquo;السيادةraquo; على جميع الجبهات، خصوصًا مع تطور حقوق الإنسان، ومعايير التدخل لأسباب إنسانية بل أن هناك من يرى أن نهاية نظام الدولة laquo;الويست فاليraquo; وبداية عصر ما بعد ويست فاليا laquo;أو ما بعد الحداثة السياسيةraquo; مرتبط بانقضاء فكرة السيادة، رغم أن العالم لم يتخل بعد كليًا عن إطار laquo;ويست فالياraquo;.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]